د. عدنان منصور _البناء
تستعدّ طبقة السلطة لخوض الانتخابات النيابية، بكلّ عنجهية لا مثيل لها. فهي لا تريد أن تعترف بفشلها الذريع، وتقرّ بفسادها، وتخبطها في القرارات التي اتخذتها على مدى عقود، وما حققته من مكاسب وثروات شخصية جاءت على حساب الشعب، وما ألحقته بالوطن من انهيار مالي ونقدي ومعيشي وخدماتي وصحي، أوصلته إلى الحالة الكارثية التي لا مثيل لها.
مافيات هذه الطبقة لا تريد أن تتنحّى أو تبتعد عن الحياة السياسية، إسوة بالمسؤولين في الدول التي يبتعد فيها الحاكم أو المسؤول عن السلطة، نزولاً عند إرادة الناس ومشاعرهم حياله، أو شعوراً في فشلهم وعجزهم عن تحقيق ما وعدوا به مواطنيهم.
طبقة رأس المال المتوحشة، القابضة على لبنان، وعلى شعبه المنكوب المقهور، تعرف مسبقاً بحسّها ومنطقها المكيافيلي، مدى تأثيرها وترويضها لأزلامها، وأتباعها، ومدى عبودية هؤلاء لها، على رغم كلّ ما ارتكبته من سياسات قاتلة بحق البلاد والعباد، وقضت على أسس ومقومات الدولة والوطن، وأحلام شعبه، وانتزعت منه ما تبقى له من آمال في حياة حرة كريمة.
طبقة تفشت في داخلها كل أنواع الفساد، ضمّت إليها حفنة على شاكلتها، بكلّ مساوئها وانحطاطها الأخلاقي السياسي، إذ تعمّدت إذلال المواطن قسراً، عن سابق تصور وتصميم، وقهره، وإفقاره، وافلاسه، وتيئيسه وإحباطه، ومن ثم تكفيره بالوطن وكلّ ما فيه…
زمرة من أباطرة المال، والمسؤولين الفاشلين، هم أسوأ بني البشر على الإطلاق، حكموا وأداروا بلداً، وأذلوا شعباً، فأوصلوه إلى حالته المزرية، ليصبح فريداً بين دول العالم، تتندّر بمسؤوليه وحجم فسادهم، ونهمهم وشرّههم وعشقهم للمال والثروة.
بعد كلّ ذلك، ما الذي ينتظره اللبنانيون من هذه الزمرة، التي تستعدّ بكلّ صلف لخوض الانتخابات النيابية! وما الذي ستقدمه إلى شعبها من وعود، واصلاحات، وإنجازات وهمية تسيل اللعاب، وهي التي حكمت، وسادت في السلطة لعقود، وتوجت أفعالها بكلّ أنواع الفساد ومشتقاته؟!
ما الذي ستقدّمه هذه الزمرة التي قطعت أنفاس المواطنين اليوم، من برامج باهرة، غير إثارة النعرات الطائفية، وتحريك العصبيات العائلية والمناطقية، وحتى الاغترابية، وتأجيج الكراهية في النفوس، والعزف مجدّداً على حقوق الطوائف، وتخويفها من الآخرين، من خلال وسائل إعلام مدمّرة، مشبوهة، ومرتزقة !!
هل لدى حيوان هذه الطبقة البغيضة التي حكمت لسنوات
طويلة، الحدّ الأدنى من الجرأة لتقول للمواطن الشريف الحر، إنها العلة والسبب، وإنها بفسادها وسياساتها العشوائية المدمرة أوصلته إلى الجحيم !
هل تساءل المواطن الشريف المسحوق مرة، وهو يرى بلده يستعد لانتخابات جديدة، ما الذي تغيّر أو سيتغيّر في سلوك، ونهج، وأداء زمرة الطبقة المستغلة, وبرامجها
الانتخابية، هذا إنْ كان لديها من برامج! وهل قام المواطن الحر مرة، بجردة حساب، وبكل ضمير حي، لتقييم إنجازات وعمل من انتخبه يوماً، إن كان جديراً الثقة، لمنحها له مجدداً، أو محاسبته على إهماله وتقصيره،
لحجب الثقة عنه !
هل حاول المواطن الحر يوماً قبيل كلّ انتخابات وهو يستعدّ للمشاركة فيها، معرفة من كان إلى جانبه، يعيش همومه، ومن كان وراء برامج النهب المنظم، والصفقات المشبوهة، ونهب المال العام، وسرقة أموال المودعين وافلاسهم، وتهريبها بفعل فاعل معلوم لا مجهول، وبأداء محكم بامتياز من عصابة، برعت في تحقيق «إنجازاتها»!
وهل تساءل المواطن الحر في نفسه يوماً: ما الذي سيغيّر من سلوك وأخلاقية هذه الطبقة وممارساتها القبيحة على مدى عقود؟ هل أدرك المواطن المقهور، بعد تقويمه لسياسات، وسلوك، وأخلاقيات حيتان طبقة رأس المال والاحتكارات، والاستغلال، أنه الكبش الثمين الذي يقبض عليه راعيه، ويلفّ الحبل عل رقبته ليكون وليمة له، يملأ به معدته لأربع سنوات أو أكثر، وبعد ذلك يتفرّغ لكبش آخر ولوليمة أخرى!
هل يعلم المواطن الحر، أنّ الوجوه التي طوّقته وكبّلته وكبتت أنفاسه، تبقى هي هي، وإنْ تغيّرت الأقنعة! وجوه تستنسخ، ووجوه تورث، ووجوه تظرف، ووجوه تشترى وتباع في سوق البورصة الانتخابية. فيما المنادي ينادي: من يركب قطار السلطة ويدفع أكثر؟ هو يعرف أنها فرصته، وأنّ التسوّق و»التسوّل» الديمقراطي» و»التمثيل الشعبي» و»الوطن القوي» يحتاج إلى المرشح الدسم الأوفر حظاً، من المرشح الوطني الحقيقي، نظيف الكف ونزيه الأداء .
تريد الزمرة السياسية الفاشلة، أن تعوّل أيضاً على أبناء المغتربين المنتشرين في أنحاء العالم وتجذبهم إليها، وهي تعدهم بالمن والسلوى. تدعوهم إلى المشاركة الكثيفة في الانتخابات النيابية لإنقاذ لبنان، من دون أن يدري القيّمون عليها، أنّ الغالبية العظمى من المغتربين- باستثناء الذين هم من طينة وعجينة هذه المنظومة- يريدون إنقاذ الوطن من عصابة اللصوص التي دمرت وطنهم، وسرقت جنى عمرهم ووأدت آمالهم، وأنهم يشعرون بقرف ما بعده قرف، عندما تطرق آذانهم نداءات «الغيارى» عليهم وعلى وطنهم! هل يعلم الغيارى على المغتربين، من مسؤولين وسياسيين، أن الذي غادر لبنان، غادره مكرهاً، محبطاً، متألماً، يائساً، غاضباً، لاعناً بكلّ ما حوته اللغة من مفردات السباب والشتائم تصبّ عليهم في كلّ مناسبة، أكانت خاصة أو عامة، وعلى من حكم، وأدار وأوصل لبنان إلى الحضيض، وشارك في إفلاس، وظلم، وإذلال، وقهر شعبه، وأجبره على ترك مسقط رأسه وتوديعه مكرها!
ما الذي تنتظره هذه الطغمة الوقحة من هؤلاء الشرفاء المقهورين الذين رحلوا بسببها عن لبنان، حاملين معهم كفاءاتهم العلمية العالية وطموحهم ودمهم وعرقهم! اتنتظر من هؤلاء، أن يعطوها أصواتهم وثقتهم «الغالية» بها! كيف ولماذا، وما هو النموذج الذي قدمته لهم من الإنجازات العظيمة الباهرة التي يعتز بها البلد والشعب على السواء؟ وما هي الحجج والمبررات المقنعة التي تدفع بهؤلاء المواطنين إلى تسجيل أسمائهم، للتصويت لها ومنحها الثقة مجددا؟
244442 لبناني فقط في دنيا الاغتراب، تقدّموا بطلبات للمشاركة في الانتخابات، حيث لا يتوقف الحريصون والغيارى على لبنان ومغتربيه عن اجترار الكلام الفارغ من حين إلى آخر، والتباهي في الحديث عن ملايين المغتربين، الذين أصبح عددهم عند هؤلاء في بازار المزاد، ليصل إلى خمسة ملايين مغترب، ثم إلى سبعة ملايين،
وبعدها إلى عشرة ملايين، ليشطح الرقم عند البعض إلى خمسة عشر مليون مغترب، وبعد ذلك يرتفع العدد عند البعض الآخر، ليتعدى العشرين مليون مغترب (…)
إلى السادة، من حكام، وزعماء، ومسؤولين، وسياسيين، ونافذين، وحملة الألقاب الطنانة، اعلموا أنّ غالبية المغتربين لا يريدونكم، وليسوا على استعداد أن يسمعوا أصواتكم النشاز، ولا نداءاتكم الانتهازية، ولا برامجكم المقرفة، ولا وعودكم الكاذبة، ولا خطاباتكم المملة التافهة، ولا وجوهكم الكالحة. لقد عانى منكم الشعب في الداخل والخارج المصائب والويلات، وذاق على أياديكم الأمرّين، فكنتم الصورة البشعة لأفسد دولة على وجه الأرض لا مثيل لها.
ما يريده منكم المغتربون الذين سرقتم جنى عمرهم، ودمرتم مستقبلهم، هو أن تحترموا فعلاً إرادتهم، وترحلوا عنهم وعن الوطن من دون أدنى أسف عليكم، وكذبكم، وطغيانكم.
المغتربون في القارات الخمس محبطون منكم ومن أدائكم، وسمعتكم التي لا تشرّف وطناً ولا شعباً ولا تشرّف مغتربيه.
في قارة أوقيانيا (أستراليا ونيوزلندا) ما يزيد عن 400 ألف لبناني. بلغ عدد الذين تقدّموا للمشاركة في الانتخابات 22668 فقط.
في أميركا اللاتينية التي يتباهى البعض بملايين اللبنانيين في دولها، ويروّجون لـ12 مليون لبناني في البرازيل وحدها، من دون أن ندري من أين جيء بهذا الرقم! للعلم أنه في البرازيل والأرجنتين، وكولومبيا، وفنزويلا، وتشيلي، والبيرو، والاكوادور، والاورغواي وغيرها من دول أميركا الوسطى، لم يتسجل سوى 6350 شخصاً(!!!) في آسيا التي لدينا فيها أكثر من اربعمائة ألف لبناني بما فيها دول الخليج العربية، تسجل فيها 61204 أشخاص، وفي القارة الأفريقية التي لدينا فيها حوالي 350000 لبناني، لم يتسجل منهم سوى 20127.
أما في أميركا الشمالية (كندا، الولايات المتحدة، المكسيك) التي يوجد فيها ما يزيد عن مليونين بين مغترب قديم وحديث، فقد تسجل فقط 59211 شخصاً. أما أوروبا التي يوجد فيها أكثر من 300 ألف لبناني، ويتمركزون في شكل أساسي في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا سويسرا وبلجيكا وإيطاليا، لم يتسجل منهم سوى 74882 شخصاً.
العدد الكلي المسجل يشكل الجزء الأكبر من المنتسبين إلى الأحزاب والملتزمين بها، أو من المنتمين إلى صفوف الطبقة الحاكمة، أو من المنتفعين منها.
أيها «الغيارى» على المغتربين! هل تعلمون الآن لماذا لن يشارك معظم المغتربين في الانتخابات! لأنّ أحرار هذا الوطن سحبوا منكم الثقة منذ زمن، ويعتبرونكم بكل صراحة علة لبنان، ومصيبته الدائمة .
من المؤسف حقاً، أنه على الرغم من كلّ ما ارتكبه المتعطشون إلى الحكم والسلطة من جرائم بحق الوطن، والشعب، وكل الشرفاء في لبنان ودنيا الإغتراب، يصر قتلة الشعب على الترشح للانتخابات، وخوض غمارها، والتربع مجدّداً على مقاعد السلطة، لأنهم عرفوا فعلاً وخبروا جيداً معدن وطينة من انتخبهم وسينتخبهم لاحقاً وعلى الدوام. فلا عتب عليكم بعد اليوم، يا ساكني القصور، طالما أنّ القطيع من العبيد ساكني القبور، راضين بسيدهم الجزار الذي «يعلفهم» لوقت، ويهيّئهم هو للذبح، ويجعلهم كبشاً يملأ معدته بهم لأربع سنوات، تكون كافية له، للبحث والظفر في ما بعد، بقطيع جديد يعلفه، ليكون كبشاً جديداً دسماً له .
فهل الذي خذل الشعب ولم يكن وفياً له، سيكون إلى جانب المعذبين في الأرض!
إلى المقهورين، المسحوقين، والمغفلين نقول: اذهبوا إلى دهاليز السلطة، واكتشفوا ما في داخلها، واقتحموا هياكل أباطرة المال، لتشاهدوا بأمّ العين مغارة علي بابا. فيها ستجدون الجواب الشافي، وستعلمون أنّ النظام الطائفي النتن البغيض، سيظل هدفاً وملاذاً آمناً لطغمة الفاسدين، وكابوساً وشوكة في حلق المقهورين.
نظام طائفي، رجعي، عفن، أكل الدهر عليه وشرب. وليس هناك بعد الآن من حلّ لاقتلاعه من جذوره سوى الصدمة! وحده الشعب إذا توحد، وأراد، قادر عليها. كيف ومتى؟
عله المزيد من الفقر، والجوع، والإذلال، والإحباط، يحدد الوقت المناسب الذي لا مفر منه عاجلاً أم آجلاً.