الهلع الذي أصاب المواطنين دفع بقسم منهم إلى البحث عن التخلّص من قسم من الدولارات التي يمتلكونها من فئة المئة دولار أميركي من الطبعة القديمة، وهي بحسب التقديرات تصل إلى 50% من مدّخراتهم نظرًا إلى أن معظم هذه الأموال تعود إلى أكثر من عامين حيث أن الطبعة القديمة هي التي كانت سائدة أنذاك.
بحسب السلطات الأميركية، وعلى رأسها السفارة الأميركية، لا مشكلة في هذه الدولارات بغض النظر عن تاريخ إصدار هذه الأوراق. وبحسب موقع U.S. Currency Education Program كل الأوراق النقدية الصادرة عن الولايات المتحدة الأميركية هي أوراق صالحة (legal tender) وبالتالي فإن الأوراق النقدية من فئة المئة دولار الموجودة بكثرة في السوق اللبناني هي عملة صالحة بشرط ألا تكون مزوّرة أو مُشوّهة بشكل يبعث على الشبهات.
إذًا ما الأسباب التي دفعت إلى مثل هذه الشائعة؟ الجشع والطمع بالحصول على أرباح (غير قانونية) عبر بث شائعات تدفع بالمواطنين إلى التهافت لبيع هذه الدولارات وهو ما يؤمّن للمستفيدين ما يزيد على 10% أرباحا، قد يكون السبب الرئيسي. فمثلًا إذا كان الحجم اليومي بالسوق اللبناني هو بحدود عشرة ملايين دولار أميركي وإذا كانت السوق السوداء تؤمّن 40% من هذه الأموال (بحسب مصرف لبنان، منصّة صيرفة تؤمّن 60% من حاجة السوق إلى الدولارات)، وبفرضية أن نصف هذا السوق هو من فئة المئة دولار ذات الطبعة القديمة، فإن حجم الأرباح غير الشرعية يتراوح بين 400 و 800 ألف دولار أميركي يوميًا. أيضًا يمكن للأجندات السياسية أن يكون لها دور في هذه الشائعات نظرًا إلى أن المسّ بآخر مدّخرات المواطنين هو كافٍ لتحريك الشارع وخلق فوضى خدمة لمخططات سياسية بامتياز.
أيضًا هناك من يقول إن هذا الأمر يتعلّق بتوقيف عمل شركة مكتّف – الشركة الوحيدة المرخصة لشحن الأموال إلى الخارج – وبالتالي ومع القضاء بمنع الشركة من العمل، فإن الأوراق من فئة المئة دولار أميركي من الطبعة القديمة لم تعد تُشحنّ إلى الولايات المُتحدة الأميركية لاستبدالها بأوراق من فئة جديدة. وهو ما يعني أن الكلفة التي يتحّمّلها المواطن هي لتغطية كلفة الشحن عبر طرق أخرى.
بغض النظر عن السبب، هناك تداعيات قد تكون خطرة على مروّجي هذه الشائعات ورافضي الأوراق النقدية من فئة المئة دولار أميركي من الطبعة القديمة. فالعملة بحسب القوانين هي مُلك للمصرف المركزي الأميركي (الاحتياطي الفديرالي) وبالتالي فإن بث شائعات تتناول هذه العملة الخضراء قد يدفع الإحتياطي الفديرالي إلى ملاحقة مروجي الشائعات ورافضي التعامل بالأوراق من الطبعة القديمة سواء على صعيد القضاء الأميركي أو على صعيد العقوبات التي قد يتمّ فرضها على هؤلاء. إذًا ومما تقدّم ان مروّجي هذه الشائعات ورافضي أوراق المئة دولار أميركي من الفئة القديمة هم عرضة لملاحقات على صعيد القضاء الأميركي، ولكن أيضًا على صعيد القضاء اللبناني نظرًا إلى أن ما يحصل هو عملية «نصب» على المواطنين اللبنانيين.
كل هذا يُظهر إلى العلن التداعيات السلبية لغياب الحكومة والذي ينتج منه قرارات واضحة في ما يتعلّق بملاحقة المخالفين، وخصوصًا من قبل الأجهزة الأمنية التي يجب عليها الضرب بيدٍ من حديد عصابات عبثت بالأخضر واليابس منذ بدء الأزمة وحتى الساعة.
على صعيد أخر، لا تزال الأسواق تشهد على غياب السلطة التنفيذية من خلال الفلتان في الأسعار والذي يشمل المواد الغذائية والأدوية والمحروقات. فالأسعار التي يتمّ احتسابها على سعر السوق السوداء (بأقلّ تقدير)، تقترح أن تكون المرحلة التي سبقت الأزمة بأعوام شهدت عملية نهب مُمنهجة من خلال فرض أسعار تفوق بشكل كبير سعر الكلفة. هذا الأمر الذي سيكون موضوع مقال مفصّل في الأيام القادمة في جريدة الديار، يقترح أن هناك مليارات الدولارات ذهبت في جيوب المافيات على مر السنين.
من جهة البطاقة التمويلية، تمّ تعديل القانون 219\2020 عبر إلغاء التعديلات التي أدخلها المجلس النيابي على اتفاقية القرض مع البنك الدولي والتي – أي التعديلات – رفضها البنك مما استوجب تعديل القانون. هذه البطاقة لن تكون فعّالة حتى ولو تمّ دفع المساعدة بالدولار الأميركي، نظرًا إلى أن الارتفاع أصبح يشملل الأسعار بالدولار الأميركي ونظرًا إلى أن زيادة القدرة الشرائية للمواطنين سيدفع بالتجار إلى رفع الأسعار لامتصاص هذه القدرة الشرائية الإضافية. وبالتالي هناك إلزامية لتفعيل عمل الأجهزة الرقابية، وعلى رأسها حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة وملاحقة المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار والمهرّبين الذين لا يزالون حتى الساعة يعبثون بأمن المواطن الغذائي والصحي.
المرحلة القادمة هي مرحلة خطرة إذا لم تعاود الحكومة اجتماعاتها، فالانسداد في الأفق الحكومي قد يُترجم على الأرض فلتانا إضافيا في سعر دولار السوق السوداء وفي أسعار السلع والبضائع التي يطبّقها التجّار على المواطنين. هذا الأمر يعني أن هناك إلزامية أن تعي القوى السياسية خطورة هذه المرحلة في هذا الوقت من العام حيث بدأ البرد القارس يدق الأبواب في بعض المناطق. وإذا كانت التوقّعات بشتاء قارس نظرًا إلى التغيّرات المناخية، فإن غياب إجراءات حكومية لخلق شبكة أمان اجتماعي قد يؤدّي إلى ضرب المواطن غذائيًا وصحيًا من خلال حرمانه من الأدوية والمحروقات وحتى حصول نقص في عدد السعيرات الحرارية التي يحتاج اليها المواطن، وهو ما يعني أننا دخلنا مرحلة جديدة من ضرب الأمن الاجتماعي للمواطن اللبناني.