«ما حدا بيشيلني… وإذا شالوني برجع». هكذا خاطب المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار أهالي الموقوفين في القضية، الذين زاروه لمطالبته ببتّ طلبات إخلاء سبيل أبنائهم، وذلك بعد استئنافه مهامه في مكتبه في قصر العدل في بيروت، بعد قرار محكمة الاستئناف المدنية ردّ طلب ردّه عن الملف المقدّم من الوزير السابق يوسف فنيانوس.
بلهجة لا تخلو من «الفوقية»، أنّب البيطار الأهالي، ضمناً، «لأنكن بتوصّلوا للإعلام أشيا غير صحيحة»، مؤكداً أنه لا يأبه بها. وبلغة لا تخلو من «المسيحانية»، قال لهم: «هذا قدر أبنائكم وعليهم أن يقبلوا بالقدر»، مؤكداً أنه سيصدر القرار الظني «بعد ثلاثة أشهر»، و«سيخرجون في نهاية المطاف»، مؤكداً أن هؤلاء «لم يرتكبوا جرماً مقصوداً» وأنه وضع «سقفاً زمنياً لكل من الموقوفين حسب المسؤولية التي يتحملها».

بالنتيجة، لم يأخذ الأهالي من المحقق العدلي «لا حق ولا باطل»، علماً بأن هذه ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها أهالي الموقوفين. والمعضلة الأساسية التي يعاني منها الوكلاء القانونيون للموقوفين أنهم لايستطيعون «استئناف قرارات التوقيف أو طلب إخلاء سبيل»، ما يعطي فرصة للمحقق العدلي بالتمادي في حجزهم بشكل مجحف.
في السياق، أكّد مقربون من المدير العام للنقل البري والبحري عبد الحفيظ القيسي، الموقوف في القضية منذ أكثر من عام، أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي زار القيسي قبل أكثر من عشرة أيام في سجنه (منطقة الرملة البيضا)، «في أعلى مستوى من التضامن يُمكن لرئيس الحكومة أن يظهره». وذلك بعدما بات واضحاً، استناداً الى مراسلات كثيرة تؤكّد أن القيسي فعل كل ما يُمكنه فعله مع الأجهزة القضائية لإنقاذ بيروت من انفجار نيترات الأمونيوم، أن توقيف من حذّر وراسل وطالب بالتحرك ليسَ سوى فعل ظالم ومتعمّد لا يخدم التحقيق بقدر ما يخدم الشعبوية المعتمدة في التحقيق، في وقت لا يزال فيه عدد ممّن يتحملّون المسؤولية طلقاء.وفيما لم يتّضح سبب الزيارة التي جرت بإشراف وزارة الداخلية وقوى الأمن (مع تداول معلومات بأن وزير الداخلية بسام المولوي زار الموقوف أيضاً)، إلا أن ما بات مؤكداً أن القيسي يعاني من وضع نفسي صعب جداً، مع تراجع وضعه الصحي لامتناعه عن تناول طعامه وأدويته.
والقيسي واحد من حوالى 20 موقوفاً أصدر المحقق العدلي السابق فادي صوان قرارات بتوقيفهم، واستكملها المحقق الحالي القاضي طارق البيطار، قبل أن يذهب هؤلاء «فرق عملة» في المعركة الدائرة بين البيطار والمتضررين من سير التحقيقات، ومن استنسابية القاضي وتحويله الملف الى قضية سياسية تستهدف تصفية الحسابات. وأتت دعاوى الرد التي تقدّم بها المدعى عليهم في القضية لتزيد الطين بلّة بسبب توقف التحقيقات وكفّ يد البيطار مرات عدة، علماً بأن الأخير يتحمّل المسؤولية الأكبر في توقيفهم، إذ وعد أكثر من مرة بإخلاء سبيلهم من دون أن يفي بوعوده.
تسييس الملف وتعامل البيطار الذي يخلط بين الشخصي والقضائي أثّر معنوياً وصحياً على الموقوفين وعلى عائلاتهم وأولادهم الذين بدأوا يواجهون حملات من محيطهم. كما انعكس على وضعهم المادي، بسبب فقدان بعضهم وظائفهم أو تقاعد بعضهم في السجن.


عبود يربك القضاء: ممنوع المسّ بالمحقق العدلي
ثمة مشكلة متعاظمة يعانيها القضاء لم تعُد الهيئة العامة ولا النيابة العامة التمييزية ولا القضاة قادرين على مواجهتها، والمسبب الأول لها هو رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود. إذ إن الأخير قرر أن يتصدّر فريق الدفاع عن المحقق العدلي القاضي طارق البيطار وتغطية استنسابيته وتغليفها بأطر قانونية واستخدام أي وسيلة قضائية لطمس مخالفات المحقق العدلي ومنع المس به.
وفيما تحوّلت جلسات الهيئة العامة أخيراً الى جولات «اشتباك» قضائي بسبب إصرار عبود على رفض التصويت وفقاً للأصول، واضعاً فيتوات على ما لا يعجبه وعاملاً على اتخاذ القرارات بالإجماع بما يشبه الفرض المقنّع، علمت «الأخبار» أن العلاقة بين عبود والمدعي العام التمييزي غسان عويدات توترت كثيراً أخيراً بسبب اعتراض عويدات على أسلوب عبود. وقد قرّر المدعي العام التمييزي أن أحداً من النيابة العامة لن يحضر جلسات محكمة التمييز الجنائية لدى القاضية رندى الكفوري بعدما قبلت طلب الدعوى المقدمة من مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت لردّ المحامي العام التمييزي غسان الخوري عن ملف تفجير المرفأ. ورغم محاولات أجرتها الكفوري لحل المشكلة، بطلب من عبود، إلا أن عويدات أصرّ على موقفه.


خيمة البيطار فوق ريفي
في 6 آب 2020، وجّه المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات كتاباً إلى وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم يطلب منها فيه إيداعه كل المراسلات المتعلقة بالباخرة «روسوس» التي شحنت نيترات الأمونيوم إلى المرفأ قبل سبع سنوات من انفجارها. وبعد تنفيذ الطلب، استمع المحقق العدلي السابق فادي صوان، بناء على هذه المراسلات، إلى إفادة وزير العدل السابق أشرف ريفي، وطلب الادعاء على وزراء العدل في كتاب الإحالة الذي وجهه إلى مجلس النواب. إلا أن اللافت أنّ المحقق العدلي الحالي القاضي طارق البيطار الذي يدّعي أن معيار الاستدعاءات الذي يستخدمه يشمل كل من علِم بأمر النيترات، يُطبّق هذا المعيار على من يشاء. فهو لم يمتنع فقط عن الادّعاء على أيٍّ من وزراء العدل، بل إنه لم يستدعِ ريفي حتى لسؤاله، مع أنّ الأخير قال في مداخلة تلفزيونية إنّ صوان استمع إليه كخبير أمني وكوزير عدل. وفي المقابل، قرّر البيطار ملاحقة وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق بصفته وزيراً للداخلية لمجرد تلقيه رسالة من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. وعلى رغم أنّ المشنوق ليس عسكرياً، قرر المحقق العدلي الادعاء عليه، فيما تجاهل استدعاء ريفي الذي تولى قيادة مديرية قوى الأمن الداخلي لسنوات ويُقدم نفسه خبيراً عسكرياً.


«رأي عائلي»
عيّن الرئيس الأول لمحاكم الاستئناف القاضي حبيب رزق الله القاضية رندة حروق لترؤس الغرفة 12 بدلاً من القاضي نسيب إيليا، للنظر في ملف رد الوزير السابق يوسف فنيانوس للمحقق العدلي طارق البيطار. وحروق هي زوجة القاضي جان مارك عويس الذي كان مستشاراً في محكمة التمييز التي ترأسها القاضية رندة كفوري التي أصدرت رأياً مسبقاً في ملف المرفأ، ما يعني أن حروق ستعطي رأياً في ملف كان زوجها قد أعطى رأيه فيه. علماً أن حروق وعويس محسوبان على رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود الذي ينشط لإفشال أي محاولة لنقل الملف من القاضي البيطار أو تنحيته.


ضحايا من «الدرجة الثانية»
ثلث ضحايا انفجار مرفأ بيروت (٢١٨ شخصاً) «أجانب – درجة ثانية» من الفئات المهمّشة. بين هؤلاء نحو 42 سورياً استشهدوا في 4 آب 2020، ولن تتقدّم حتى اليوم أي جهة لتبني قضية هؤلاء الذين لا يعرف كثيرون أسماءهم ولا يعبأون بمصير عائلاتهم. السفارة السورية غائبة عن السمع، مع أنّ ممثلين عن السفارات الفرنسية والأميركية والهولندية والألمانية وغيرها يُتابعون الملف عن كثب مع المحقق العدلي طارق البيطار.
أولياء دم هؤلاء المهمشين، وغيرهم خصوصاً من البنغاليين، يوازون الكتلة الشعبية من أهالي الشهداء الذين يتسلّح بهم القاضي البيطار. وعلى رغم أن تقارير إعلامية، محلية وغربية، وجهت أصابع الاتهام إلى رجال أعمال سوريين بالضلوع في ملف النيترات، وعلى رغم أنّ عدداً كبيراً من الضحايا سوريون، إلا أنّ الدولة السورية لم تبد اهتماماً للدخول إلى ملف التحقيق أو متابعة ما يجري وكأنّ الأمر لا يعنيها.
أحد المحامين الذين توكلوا للدفاع عن ضحايا الفئات المهمشة أكد أن غالبية ضحايا هذه الفئات سوريون، مشيراً إلى أنّ جمعية تتولى الدفاع عن حقوق العمال السوريين تتابع ملف عدد منهم، وأن جمعية تُعنى بحقوق مكتومي القيد كانت أول من دخل على الخط لتوكيل محامين.