الأخبار- حسين إبراهيم
منذ بداية جولة محمد بن سلمان الخليجية، تكثّفت الأحداث لتُذكّر وليّ العهد السعودي بأنه إزاء خليجٍ آخر، الخارجون فيه عن إرادة مملكته أكثر من المُسايِرين لها. والسبب، مغامراته هو بالذات في الداخل والخارج، والتي ألقت بثقلها ليس على السعودية وحدها، وإنّما على المنطقة برّمتها. أوّل هذه الأحداث سبقه إلى محطّته الأولى في سلطنة عُمان، حيث يَعتبر ابن سلمان أنه استطاع اغتنام تغيُّر السلطة في السلطنة ووضْعها الاقتصادي الصعب، كي يستميلها إليه. غير أن الواقع يشي بغير ذلك، وربّما بالعكس تماماً. فبينما كان يُستقبل بإحدى وعشرين طلقة مدفعية في البلاط السلطاني، سقطت خلف ظهره في المملكة، زخّة من الصواريخ الباليستية التي انفجر أحدها في سماء الرياض، لتُنبّهه إلى التعقيدات الناجمة عن العدوان على اليمن، خاصة مع التقرير الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، أوّل من أمس، ومُفاده بأن صواريخ «الباتريوت» المضادّة للصواريخ تكاد تنفد من مخازن السعودية، التي تناشد بشكل عاجل الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا والخليج إمدادها بهذه الدفاعات، في وقت تُواجه فيه بشكل دوري هجمات بالصواريخ والمُسيّرات ردّاً على عدوانها، وتقوم بإطلاق «الباتريوت» لإسقاط نسبة منها.
في السلطنة بالذات، كان الأمير السعودي يمنّي النفس بأن تؤتي العلاقة الدافئة حالياً ثمارها، يمنياً بالذات، وإماراتياً بدرجة أقلّ، حيثُ السلطان هيثم بن طارق يبدو الأقرب لإيصال أيّ رسالة استجداء إلى مَن يعنيهم الأمر في صنعاء وطهران، بحُكم دوره في الوساطة في النزاع اليمني، وعلاقته الجيّدة بالعاصمتَين، وكذلك لإيصال الرسائل القاسية إلى الإمارات. ولذا، ربّما تكون الحصة المالية الكبرى في الجولة مخصّصة للاستثمار في السلطنة، حيث أُعلن خلال الزيارة عن توقيع 13 اتفاقاً بين مؤسسات سعودية وأخرى عُمانية تملكها هيئة الاستثمار العمانية وشركات خاصة، قيمتها 30 مليار دولار في قطاعات تشمل الطاقة والصناعات الدوائية والاستثمار في ميناء الدقم العماني، وهو ما أعقبه افتتاح رسمي للطريق البرّية بين البلدين، والبالغ طولها 725 كيلومتراً. وإذا كان السلطان هيثم ينسجم مع ضيفه في الملفّ الإماراتي أو يتجاوزه حتى، بسبب التنافس التاريخي والخلاف الحدودي المزمن بين الإمارات وعُمان، فإنه يدرك أن قوّة موقف بلاده في الملفّ اليمني مستمَدّة من وسطيّتها، وبالتالي، فإن دوره ينحصر في التسهيل. وأمّا الحلول، فهي مرتبطة بالأطراف المعنيّة. لكنّ هذا الواقع لا يمنعه من الاستفادة سياسياً واقتصادياً، من التموضع الذي تتّخذه بلاده منذ زمن. فهو لا يخفي رغبة عُمان في تقديم نفسها بديلاً للإمارات بالنسبة إلى المستثمرين والسُّيّاح السعوديين، فيما يسعى وليّ العهد السعودي نفسه إلى أخذ مكان الإمارات كمركز تجاري عالمي.
وحتى لا تَبيت الرسائل التي يريد ابن سلمان إيصالها إلى خصمه الجديد، حليفه القديم، محمد بن زايد، جعل من أبو ظبي محطّته التالية، ربّما لإلقاء نظرة أخيرة عن كثب على النموذج الذي يريد استنساخه ونَقْله إلى السعودية، وهو ما ينفّر الإماراتيين منه. وربّما لذلك، بدا استقبال الضيف السعودي في الإمارات باهتاً مقارنة بالاستقبال العُماني، على رغم عراضات مَنْح الأوسمة والنياشين. ابن زايد، الذي يتنقّل بدوره بين العواصم محاوِلاً حماية نظامه، مستشعراً زمن التحوّلات الكبرى الآتي حتماً إلى الخليج، كان أذكى من ابن سلمان. وهو إذ انخرط مع الثاني في معركة خاسرة سلَفاً لدرء تلك التحوّلات، من بوّابة العدوان على اليمن، فقد سارع إلى اغتنام فرص الخروج من الورطة، تاركاً ضيفه يتخبّط وحيداً؛ إذ فتح الخطوط مع خصومه السابقين في تركيا وقطر، ثمّ أرسل شقيقه طحنون إلى إيران – في الوقت الذي كانت تتساقط فيه الصواريخ اليمنية على السعودية -، في زيارة سيكون من بين نتائجها إبطال أحد أهداف الجولة الخليجية للأمير السعودي، وهو الظهور بمظهر زعيم الخليج الموحّد على العداء للجمهورية الإسلامية. وعلى رغم أن محاولات الإمارات التقارب مع إيران ليست جديدة، وكانت قد بدأت بهدوء منذ سلسلة هجمات استهدفت سفناً قبالة سواحل الدولة والهجوم الكبير على منشآت «أرامكو» السعودية في بقيق وهجرة خريص في عام 2019، إلّا أن زيارة طحنون تمثّل «نقطة تحوّل» في العلاقات مع إيران، كما أكد الزائر نفسه.
لا تقف مشكلات ابن سلمان في رحلته الخليجية، هنا. فمحطّة الأمس، قطر، التي لم يمضِ وقت طويل على تهديد وليّ العهد السعودي باجتياحها عسكرياً وإسقاط نظامها بالقوّة، ثمّ – بعد اتّضاح استحالة هذا الخيار – التلويحِ بحفْر خندق مائي لعزلها عن الحدود البرّية الوحيدة لها وملئه بالتماسيح وأسماك القرش، تُمثّل واحدة من المحطّات الصعبة بالنسبة إليه، خاصة أن أميرها تميم بن حمد استضاف قبل يومين من وصول ابن سلمان إلى الدوحة، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في محاولة لترتيب لقاء بين الرجلين، وهو ما أشاع الذباب الإلكتروني السعودي أن وليّ العهد رفضه حتى يأتي إردوغان «صاغراً إلى الرياض». ربّما يكون ابن سلمان قد استشعر صعوبة الوضع الاقتصادي التركي بسبب الانهيار المتواصل في قيمة الليرة، ورأى أنه يستطيع استدعاء إردوغان إلى الرياض للتفاوض معه بشروط أفضل، إلّا أن الأخير لا يزال يملك الكثير من الأوراق، ومنها ورقة اغتيال جمال خاشقجي، والتي ما زالت أسرارها مُلك الاستخبارات التركية. فابن سلمان يتذكّر جيداً كيف روّعه إردوغان وكاد يطيح به، بفضْح تلك الأسرار التي لا تزال ترخي بثقلها عليه، حيث يرفض الرئيس الأميركي، جو بايدن، استقباله في البيت الأبيض أو حتى الحديث معه، كما يتحاشى معظم زعماء العالم اللقاء به، على رغم خرْق الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هذا الجوّ قبل أيام ساعياً للتكسّب.
تَبْقى الكويت التي يزورها ابن سلمان اليوم، والتي ربّما فيها وحدها سيشعر باستعادةٍ ما للدور السعودي، في ظلّ الحُكم الجديد الذي مال نحو الرياض بحثاً عن توازن يستقرّ عليه، ويقيه شرّ المعارضة القبَلية القوية التي كان الأمير الراحل صباح الأحمد الصباح قد أتقن ترويضها، كما أحسن التموضع في الفترة الحرجة التي شهدها الشرق الأوسط مع اندلاع الأحداث في عدد من الدول العربية، حيث كان من شروط هذا النجاح الابتعاد عن الأجندة السعودية. أمّا في البحرين، فيزور ابن سلمان بلداً محتلّاً من جيشه، ويلتقي بسلطة يعود الفضل إلى الرياض وحدها في بقائها حيث هي.