اهتمام الأجانب بالاستحقاق الانتخابي في لبنان جدي للغاية. تبدو هذه الدول في حال انتظار لتغييرات جدية على مستوى التمثيل السياسي، ما يسمح بقيام سلطة جديدة تُدخل تعديلات كبيرة على المشهد اللبناني. لكن، من السذاجة الاعتقاد بأن هؤلاء يتطلعون لتغيير من النوع الذي يقود لبنان إلى مستوى مختلف من العيش والقوانين الحامية للناس والحافظة للاستقلال والسيادة. بل يتطلعون، ببساطة، إلى تغيير يسمح بتعديل الموقع السياسي للبنان. وفي هذا المجال، نحن اليوم أمام جهة وحيدة شديدة الصراحة في ما يريده الخارج منا، هي السعودية التي تقول جهاراً نهاراً: لا نريد لبنان مع حزب الله. بل نريد لبنان مع خصوم حزب الله!
عملياً، يتصرف الجميع على أساس أن معركة عزل حزب الله أو ضربه أو تحجيمه أو «قبعه»، هي المهمة المركزية للفريق الذي تدعمه الدول الغربية. وإذا كان الجميع يتصرفون بواقعية إزاء صعوبة إحداث انقلاب شعبي كبير يجعل حزب الله خاسراً بصورة مباشرة في الانتخابات، إلا أنهم يركزون على عدم تشتيت الجهود وتركيز المعركة على خطوط عدة:
أولاً، استغلال الانتخابات لتصعيد الحملة ضد المقاومة وتحميلها مسؤولية كل الأزمات. ويتكل الغربيون، هنا، على وقاحة حلفائهم الذين لا يتوقفون عن الكذب منذ ولدوا، وهم لن يتعبوا إن كذبوا من جديد. فكيف وأن حملة كهذه تعفيهم من المسؤولية عن الخراب. وحلفاء الغرب في مواجهة حزب الله ليسوا القوى التقليدية لفريق 14 آذار، بل كل الذين تنعّموا بالسلطة منذ العام 1990 حتى الآن، وقد زاد على ما يعرف بـ«الدولة العميقة»، كثير من اللاعبين، بينهم شيعة وسنة ودروز ومسيحيون.
ثانياً، ممارسة أقصى الضغوط لمنع التضامن مع حزب الله إعلامياً وسياسياً ومالياً، وحتى على صعيد الترشيح والتحالفات والتصويت. وقد باشر الغربيون ممارسة هذه الضغوط بتحذير كل من يفكر بالتحالف مع الحزب من أنه يضع نفسه عرضة لعقوبات كونه يتعاطى مع تنظيم إرهابي. فكيف الحال، ودول كبيرة تتقدمها السعودية تهدد الناس بأرزاقهم إن تبين لها أنهم يقفون إلى جانب المقاومة. ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن في هذا الأسلوب ما يعقّد الأمور على الحزب لناحية بناء اللوائح والتحالفات وحتى الحملات الانتخابية.
ثالثاً، الضرب بقوة، وتحت الزنار، لكل جهة أو شخصية يمكن أن تمثل عنصر قوة إذا كانت حليفة لحزب الله. وليس أمام هذا الفريق اليوم سوى التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، لذلك، يتبارى حلفاء أميركا والسعودية من المسيحيين بعرض الخدمات لـ«سحق العونيين» في الانتخابات المقبلة ما يحقق هدفاً مركزياً هو نزع «شرعية شعبية مسيحية» وفّرها التيار الوطني الحر للمقاومة في لبنان.
رابعاً، إثارة مناخات متوترة على صعيد البلاد تسمح بجعل حزب الله خصماً أو حتى عدواً لكل المجموعات والأحزاب اللبنانية. مع ما يقتضي ذلك من تكرار تجارب شويا وخلدة والطيونة إن لزم الأمر، ورفع مستوى الحملات الإعلامية بتحميل الحزب مسؤولية ملف المخدرات في لبنان والمنطقة والعالم إن أمكن، وتحويله من منظمة يصفها العدو بالقوة الإرهابية إلى منظمة إجرامية تشكل خطراً على السلامة العامة في لبنان وخارجه.

يتبارى حلفاء أميركا والسعودية من المسيحيين بعرض الخدمات لـ«سحق العونيين» في الانتخابات لنزع «الشرعية المسيحية» عن المقاومة

لكن، كيف السبيل إلى تحقيق كل هذه الأهداف؟
السؤال أو التحدي الأول أمام الخارج وحلفائه ليس في إقناع هؤلاء بأن حزب الله هو الخصم الواجب ضربه وعزله وتعطيل قدراته، بل في إقناع هذه القوى المختلفة بأن عليها التحالف الجدي في ما بينها لتشكيل قوة وازنة قادرة على ضرب التيار الوطني الحر، وعلى خلق توترات داخل البيئة اللصيقة بحزب الله. وفي هذا السياق، يبدأ وجع الرأس عند الغربيين على وجه الخصوص، وربما عند الأميركيين والأوروبيين أكثر من السعوديين الذين قرروا إخضاع كل من يطلب ودّهم لاختبار مباشر: اظهر لنا قدرتك على مواجهة حزب الله وخذ ما تريد! بينما تظهر مؤشرات تحتاج إلى تدقيق كبير، حول ميل من جانب الإمارات العربية المتحدة إلى عدم التورط في هذه المعركة، من ضمن سياق استراتيجية جديدة يتحدث عنها قادة أبو ظبي تقضي بـ«تصفير المشاكل». ويحدث أن الإمارات بدأت اتصالات مباشرة مع السوريين والإيرانيين، وبعثت برسائل إلى حزب الله في لبنان، وينقل عن مسؤولين فيها رغبتهم بحوار مباشر مع الحزب إن أمكن. لكن السؤال الأميركي والفرنسي والألماني (ومن آخرين) يركز على كيفية خلق مناخ يساعد في تجميع «الحلفاء» ضمن جبهة واحدة. لذلك، فإن الاتصالات الجارية الآن تستهدف ليس إقناع هؤلاء الحلفاء بأهمية رفع شعار واحد يركز على ضرب حزب الله، بل محاولة إقناعهم بعقد تسويات تسمح بنسج تحالفات بينهم تمكنهم من تركيز الأصوات والفوز بمقاعد كثيرة، خصوصاً أن حلفاء الغرب يتحدثون عن «قدرتهم» على انتزاع غالبية مريحة في البرلمان المقبل.
لكن، تعالوا نحاول حل أحجية هذه التحالفات:
يبدو أن تدخلاً إلهياً من نوع خاص يمكنه جمع ما يسمى «مجموعات الثورة» تنضوي في قالب واحد أو حتى تلتقي في غرفة واحدة. ويبدو أن تدخلاً إلهياً إضافياً فقط يمكن أن يقنع هذه المجموعات بتشكيل إطار قيادي يحدد آلية خوض الانتخابات النيابية ويضع آلية للترشيحات والعمل وحتى التمويل. كما أن هناك حاجة إلى تدخل إلهي آخر لإقناع هذه المجموعات بأن «التغيير المنشود» لا يمكن أن يستهدف الجميع دفعة واحدة، بالتالي فإن شعار «كلن يعني كلن» بات منتهي الصلاحية.
ويبدو، أيضاً، أن المال الوفير ليس شرطاً لازماً لإقناع القوى والشخصيات التقليدية بأنها لا تشكل بديلاً من خلال برنامج الإعاشات المنتشر في كل مناطق لبنان، كما يبدو أنه من الصعب إقناع هذه القوى بأنها مضطرة لأن تتواضع قليلاً في طلب ما تريده من مقاعد وحصص نيابية، وأن لا تبالغ بقدراتها في الميدان.
يبدو، أيضاً وأيضاً، أنه يصعب جعل كل هذه القوى تقتنع بأن التراجع الذي أصاب التيار الوطني الحر في الوسط المسيحي، قد أصاب غالبية – إن لم يكن كل – القوى السياسية التي ترتبط بعلاقة بالسلطة، وأن الكتلة الشعبية التي قررت الانزياح بعيداً عن «الأحزاب» ليست في مزاج يجعلها تفضل حزباً على آخر، فقط بسبب شد العصب الطائفي. لأنه في حالة الجنون الطائفي يرتدّ الجميع إلى واقعه القبلي، وعندها لن نكون أمام مشهد سياسي مختلف.
وفوق كل ذلك، يكفي رصد أنواع المشكلات بين حلفاء أميركا والسعودية، كسؤال وليد جنبلاط وسمير جعجع عن الموقف النهائي لسعد الحريري من المشاركة في الانتخابات، وهل هناك ضمانة بتجيير أصواته لهما في حال قرر العزوف. وماذا سيفعل جنبلاط مع طلبات القوات اللبنانية بحجز جميع المقاعد المسيحية في دوائر البقاع والشوف وعاليه مقابل التصويت له ولمرشحيه في بقية المناطق. وكيف يمكن لسامي الجميل الحصول على تحالف انتخابي يتيح له الحصول على أصوات تعمل القوات اللبنانية على جذبها يومياً باسم الله مباشرة، من دون إقحام الوطن والعائلة في التعبئة. علماً أن آل الجميل يعرضون على اللبنانيين اليوم ثلة من أولادهم الأقحاح، من سامي إلى يمنى ونديم، إلى أولاد بيار الحفيد في حال لزم الأمر… وما هو مصير نعمت أفرام إن بقي وحيداً في كسروان وجبيل في حال قرر السير مع المجموعات المدنية ورفض التحالف مع القوات اللبنانية خشية غضب «الثوار». وما هي الحلول عند ميشال معوض إن خسر أصوات التيار الوطني الحر والقوات، ولم يحصل على ما يكفيه من أصوات «الثوار» شمالاً، بينما سيضطر إلى إنفاق الكثير للفوز بأصوات سنة زغرتا الذين يعرض الجميع استمالتهم بالطريقة التي يفضلون. وكيف للثوار أن يخترقوا الجبل الدرزي المحصن، حيث المتذمرون من «البيك» لن يذهبوا إلى خطوة تتجاوز امتناعهم عن التصويت، وهؤلاء «الثوار» لا وجود فعال لهم خارج معارضي المختارة من طلال إرسلان (ومعه وئام وهاب) إلى القوميين السوريين. ثم ما هي الحيلة التي سيلجأ إليها «يسار سوروس» حتى ينتقل فجأة من مراضاة «بيك السياديين» إلى خوض معركة ضده في عقر داره. وما هو الحل السحري عند أيتام «مجموعة العشرين السنية» في بيروت وطرابلس، وهم يتنازعون على من يقود لوائح هدفها جذب الأصوات السنية المعارضة. ومشكلتهم تتفاقم في ضوء نتائج الاستطلاعات التي تقول إن سعد الحريري لا يزال الزعيم الأول للسنة. وفي مكان آخر، يواجه «حكماء السعودية» من نادي رؤساء الحكومات معضلة اسمها نواف سلام. إذ سبق أن رشحوه مندوباً عنهم – لا شريكاً – في السراي الكبير، لكن الأخير منشغل في درس عروض «ثورية» بأن يقود لائحة كبيرة في بيروت شرط إعلاء الخطاب الاعتراضي على الحريرية ليفوز بقلوب «الثوار» وينال شرعيتهم إن قرر لاحقاً خوض معركة رئاسة الحكومة، علماً أن الرجل سيكون مضطراً إلى خوض معركة إضافية مع «الحالم الأكبر» بخلافة سعد الحريري، أي فؤاد مخزومي، «ملك الحوار والشيش طاووق» أيضاً! وفوق كل ذلك، هل من داع للعودة إلى المجموعات المعارضة نفسها التي تنتظر الترياق الخاص بتمويل الحملات الانتخابية، وسط صراع لم ولن يتوقف بين أدعياء الثورة في لبنان والمهجر!
صحيح، أن معركة المقاومة ومن معها من حلفاء ليست سهلة. لكن العمل تحت وطأة الحملات الإعلامية والسياسية لناشطي وإعلاميي المحور الأميركي – السعودي، لن يفيد في شيء. بينما المطلوب واضح ومحدّد، وهو أن العنوان الرئيسي للمعركة المقبلة، أي حماية المقاومة، يعني مساعدة التيار الوطني الحر. ونقطة على السطر!