عمر قدور|المدن
هو بيان مجلس الشعب الذي تعهد بذلك. البيان الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، ذكرى ضم اللواء إلى تركيا، توعد ضمناً إسرائيل باستعادة الجولان أيضاً، ففي نصه تأكيد المجلس على “أن لواء إسكندرون السليب جزء لا يتجزأ من التراب السوري، وأن السوريين سيبذلون الغالي والنفيس حتى يعود الحق السليب إلى أصحابه، ومصرون على استعادة كامل الأراضي المغتصبة وتحقيق النصر المؤزر بهمة رجال الجيش العربي السوري لإعادة الإعمار وبناء سورية”.
وكما يُفهم من النص السابق، المهمة صارت في عهدة “رجال الجيش العربي السوري” وقائدهم الأعلى، وهم قادرون على إنجازها. من نافل القول أنهم سيفعلون ذلك بجهودهم الذاتية، مدعومين فقط بالسوريين الذين لا يكلّون من بذل الغالي والنفيس، فلا ميليشيات “شقيقة” ستساعد في اقتحام اللواء والجولان، ولا الطيران الروسي الصديق سينفذ فيهما سيناريو غروزني. وحدها قوات الأسد ستوغل في الجبهتين تحريراً وتعفيشاً.
المهمة خلصت إلى اتخاذ صفتي الاستعجال والحسم، فلا وقت يضيعه الداعون إلى التحرير باستخدام أساليب أخرى سوى الحرب. لقد حان موعد تحرير “الجولان المحتل” و”اللواء السليب” بقوة السلاح، ولا مفاوضات مع العدو فهي قد تجنبه الويلات التي سيلاقيها بالحرب، ولا شكاوى تُقدَّم إلى مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية لأن مجلس الشعب لا يعترف بأهليتهما. الكلمة الآن للبندقية؛ إلى الأمام!
لم يتسرع المجلس في الوصول إلى هذه الخلاصة، فطوال السنوات الأخيرة كانت هناك فعاليات “شعبية” ورسمية للمطالبة بتحرير اللواء. هناك جمعيات للمنحدرين منه تم تأسيسها خلال هذه السنوات، ولا بأس إن تقاعس الأسلاف الذين نزحوا عن تأسيسها فعوّض الأحفاد بحميتهم ومحبتهم وحنينهم الجارف إلى أرض الأجداد. من الفعاليات السنوية في ذكرى “سلخه” عن الوطن، على سبيل المثال، كانت هناك في حلب قبل سنتين أنشطة متنوعة، منها عرض عسكري، وأهمها رسالة موجهة إلى رئيسهم قيل أنها الأطول بأعداد الموقعين عليها.
أما قرار ضم الجولان، في 14 كانون الاول/ديسمبر 1981، فلا تحتاج ذكراه لفعاليات على النحو ذاته. الصامدون من أهله سيتكفلون بإقامة فعاليات مناهضة للاحتلال في ذكرى قرار الضم، وفي ذكرى الإضراب الكبير. يستطيع هؤلاء من أماكنهم إبداء الشجاعة والتنديد بالاحتلال بأسمائهم وألقابهم المهنية، فلا يحتاجون برنامجاً مثل “خارج العاصمة” على قناة الإخبارية السورية كي يستضيفهم بلا أسماء ولا ألقاب ولا أمكنة عيش معلنة، على النحو الذي يمكن مشاهدته في فقرة خُصصت للّواء قبل ثلاث سنوات، وظهر فيها رجال ونساء يتحدثون على أنهم من أبنائه، من دون التعريف بهم كالمعتاد وكما يليق؛ إنهم مجرد أدوات.
في تقرير لقناة “سما” هذه السنة في الذكرى إياها، ترد عبارة مفادها أن لواء إسكندرون لم يغب يوماً عن خريطة سوريا. المقصود بالعبارة الرد على ما يتداوله سوريون من أن حافظ الأسد تنازل عن المطالبة باللواء بموجب اتفاقية أضنة 1998، حيث “حسب المتداول” ينص الملحق الثالث منها على أن الخلافات الحدودية منتهية بين الجانبين، ولا مطالب لأي منهما في أراضي الطرف الآخر. ما هو مؤكد أن الفترة التي شهدت فيها العلاقات التركية-الأسدية تقارباً ودفئاً، وراحت الوفود التركية تتوالى إلى سوريا، كانت فيها الخرائط القديمة الموجودة في بعض أماكن الاستقبال تُخفى كي لا يراها الضيوف، وأغلب الظن أن العكس كان يحدث عندما تزور وفود الأسد تركيا.
صحيح أن الكتب والخرائط المدرسية كانت في حقبة سابقة تشير إلى سوريّةِ اللواء، لكن ذلك كان مشابهاً للسياق الذي يرد فيه أن كيليكيا بأكملها عربية، لا تركية ولا كردية ولا أرمنية. وتسمية “اللواء السليب”، التي أعيد إحياؤها، ملطَّفة بحيث لا تحيل إلى أجواء الحرب الوشيكة التي هدد بها مجلس الشعب قبل أيام قليلة. جدير بالذكر أن السلطات السورية منذ الاستقلال لم تتقدم بأية شكوى تخص اللواء أمام المؤسسات الدولية، لا في عهد الأسد ولا قبله. لم تطالب سلطة بإعادة الاستفتاء الذي تطعن في صحته، مع المطالبة باستبعاد التغييرات الديموغرافية اللاحقة على الاستفتاء الأول. لم تودع أية سلطة وثائق تدعم الحق السوري، ولو من باب التثبيت الرمزي لما تطالب به أسوة بالقرارات الدولية الخاصة بالجولان.
بالطبع يمكن بسهولة تأويل الهمروجة المتعلقة باللواء على خلفية العداء المستجد بسبب الانخراط التركي في الصراع السوري والصراع على سوريا، إلا أنها للحق خفة وهزل غير مسبوقين في التعاطي مع قضية يُفترض أنها وطنية. حتى أن هذا لا يُقارن بتفاهة أو سفاهة مقولات الممانعة المتعلقة بالصراع مع إسرائيل، إنه استخفاف يتجاوزها لجهة الكذب المفضوح، فعلى الجبهة الإسرائيلية منفردة لم تُقرع طبول الحرب هكذا رغم المشاوير المتكررة للطيران الإسرائيلي وغاراته.
كانت استطلاعات للرأي، أُجريت في الجولان في التسعينات، قد بيّنت أن النسبة الساحقة من الذين ولدوا بعد الاحتلال الإسرائيلي لا يفضّلون العودة إلى البلد الأم، بموجب المفاوضات التي كانت تجري آنذاك. هناك وصفة مماثلة لشرح نتيجة الاستبيان؛ أن يقف أحد ما في مدينة حارم ضمن الحدود السورية وينظر إلى الريحانية في اللواء، أن ينظر ويقارن نهضة الريحانية “السليبة” بما يراه حوله من تردٍّ خدمي قد يجوز اختصاره طوال عقود بالريحانية المنورة في أوقات مديدة غرقت فيها شقيقتها التوأم في الظلام، والحديث هنا عما قبل عام2011، بما فيه أفضل الظروف الاقتصادية التي سمح بها حكم الأسد.
اليوم يكفي أن نتخيّل استفتاء في مناطق سيطرة الأسد، بدءاً من مسقط رأس الأسد الأب، يخيِّر البؤساء هناك بين البقاء تحت حكمه أو الانضمام إلى تركيا أو إسرائيل، ولعل تخيّل ذلك يغنينا عن تخيل نتيجة استفتاء يُجرى في اللواء أو في الجولان يقرر فيه الأهالي البلدَ الذي يودّون العيش فيه. في الأصل لا حراك شعبياً في اللواء يطالب بعودته إلى سوريا، أما الحراك الموسمي لقسم من أهل الجولان فهو ضمن اشتباكهم مع الاحتلال أو ما بات في حكم الفلكلور، ولا يعبّر عن نية العودة إلى “سوريا الأسد”، والمحسوبون منهم على الأسد ليسوا خارج الذين قد يرفضون العودة.
لقد جعل حكم الأسد من الوطن ما يحلم به السوري، لا ما يعيش فيه حقاً، وبأكاذيبه عن التحرير لا يأتي بجديد سوى التذكير بأن الحلم الموعود صادق بقدر ما ستهجم قواته لتحرير اللواء والجولان. لكن، بين ركام أكاذيبه، ثمة ما هو صادق في القول “أن السوريين سيبذلون الغالي والنفيس حتى يعود الحق السليب إلى أصحابه”. هذا هو الوعيد الحقيقي جداً، حتى بعد سرقة كل غالٍ ونفيس من السوريين، فمع العوز الشديد الذي أُوصِلوا إليه أصبح كل قليل غالياً ونفيساً.