على الرغم من الايجابية التي تحدث عنها المفاوض الايراني علي باقري كني وسادت اجواء الجلسات التفاوض بين ايران ومجموعة 4+1 في فيينا، الا انها لم تحجب او تغطي على الاجواء “المحبطة” التي اجمع عليها مندوبو الترويكا الاوروبية والاتحاد الاوروبي نتيجة السقف العالي للمطالب والشروط التي وضعها النظام الايراني في الورقتين على طاولة التفاوض، قبل الاعلان عن عودة كل الاطراف الى عواصمها للبحث في النتائج التي تم التوصل اليها وما طرحه الطرف الايراني حول موضوعي العقوبات الامريكية والبرنامج النووي.
وعلى الرغم من اجواء السرية وحرص كل الاطراف على عدم تسريب ما جاء في ورقتي المفاوض الايراني، باستثناء العناوين العريضة لهما. فان طهران تبدو متمسكة بالاليات وبالسقوف والطموحات التي تريدها في مسألتي العقوبات والبرنامج النووي. اي رفع جميع العقوبات الامريكية التي فرضت على ايران ما بعد عام 2018، بكل بنودها النووية وحقوق الانسان والارهاب، واذا ما تعذر الحصول على ضمانات قانونية واضحة من الجانب الامريكي بعدم انسحاب اي ادارة جديدة من الاتفاق، او تقديم ضمانة مكتوبة بعدم العودة الى سياسة العقوبات ضد ايران، وتسهيل عملية الوصول الى الاموال المجمدة وعدم عرقلة العمليات المالية بين البنوك. فان المخرج لهذه الازمة يكون بان ترفع الولايات المتحدة الامريكية العراقيل والتهديد بالعقوبات عن الدول الاخرى والشركات الغربية او الراغبة في الاستثمار في ايران واسقاط الطابع الدولي عن العقوبات التي فرضتها والاكتفاء بالطابع الامريكي فقط.
اما في الموضوع النووي، يبدو ان ايران تسعى للتفاوض من نقطة متقدمة، اي اعتبار السقوف التي حددت في الماضي حول مستويات انشطة تخصيب اليورانيوم من الماضي، والانتقال الى سقوف جديدة تبدأ من مستوى 20 في المئة واعتباره حقا طبيعيا لها، كون مستوى 3.67 في المئة لانتاج وقود المفاعلات الكهرونووية بات خارج المعادلة وحقاً غير قابل للتفاوض، وما يمكن التفاوض حوله يدور حول مستويات التخصيب التي وصلت الى 60 في المئة، واستعدادها لوقف هذه الانشطة بعد الاعتراف بهذا الحق دوليا، على ان تلتزم بعدم تطوير هذه الانشطة والوصول الى العتبة النووية، بالاضافة الى توسيع دائرة المراقبة وعمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وامكانية تسهيل وصول فرق التفتيش الى المنشآت محل الجدل مع الوكالة الدولية وتمتنع طهران حتى الان عن فتحها امام الوكالة الدولية على الرغم من الزيارات المتكررة لرفائيل غروسي مدير الوكالة الدولية الى ايران. ولعل الاشارة الاولى الصادرة عن طهران وكشف عنها رئيس الوفد المفاوض باقري كني هي السماح للوكالة الدولية لرفع مستوى عمليات المراقبة والتحقق التي تقوم بها في منشأة “فردو” التي تعالج اليورانيوم بمستوى 20 في المئة.
السلوك الايراني في جلسات التفاوض المستأنفة في فيينا، وفي الوقت الذي شكل صدمة للاطراف المفاوضة، خاصة المفاوض الامريكي غير المباشر، فانه يترافق مع سلوك باتجاه الرأي العام الداخلي، ومحاولة ابقائه بعيدا عن التفاصيل وحقيقة المواقف والمصاعب التي يواجهها في عملية التفاوض. وعلى الرغم من عدم قدرته على تسويق استنئاف المفاوضات من النقطة التي انتهت اليها الجولات الست الماضية بقيادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف وفريقه، بانه انجاز استطاع تحقيقه في وجه الخصم الامريكي، يعزز الاعتقاد بوجود رقابة اعلامية صارمة على الاخبار التي تنشر داخليا حول مسار المفاوضات وما يرافقها من مواقف، والتزام وسائل الاعلام بالرواية الرسمية التي تقدم لها من خلال قنوات اعلامية محددة تابعة للنظام “الاذاعة والتلفزيون” او الدولة “الوكالة الرسمية ارنا” او التابعة للمؤسسة العسكرية “تسنيم وفارس”. يضاف الى ذلك التسويغات التي يقدمها مسؤول المفاوض باقري كني الذي لجأ في جميع تعليقاته على المفاوضات الى القول بانها “ايجابية وحققت تقدما لصالح ايران” مضيفا بان “الاقتراحات التي قدمتها ايران للاطراف الاخرى في المفاوضات، جاء بشكل لا يمكنهم رفضها، وهذه الاقتراحات تقوم على اساس ما جاء في اتفاق عام 2015 ويجب الغاء جميع العقوبات الامريكية في مجال النووي. الاقتراحان اللذان قدما من قبل ايران في مفاوضات فيينا كانا حول الغاء العقوبات والاجراءات النووية، هما يعتبران من مواضيع الاتفاق الاصلية”.. من دون ان يقدم للرأي العام الايراني اي تفسير حول طبيعة هذه الاقتراحات، وما هي المسؤوليات والنتائج التي تترتب والاثمان التي قد تدفعها ايران والشعب الايراني سياسيا واقتصاديا وامنيا في حال تم رفضها من الطرف الاخر.
ردة الفعل الامريكية على الاقتراحات الايرانية تقترب من “خيبة الامل” لانها تهدد جهود التفاوض الثنائي خلف الكواليس التي بذلت في الاشهر الاخيرة، والتي عبرت عنها سلسلة اجراءات عملية غير رسمية تتعلق بموافقة واشنطن على تخفيف الخناق عن طهران في بعض العقوبات، وهو ما سمح لها بالحصول على اكثر من 3 مليار دولار مجمدة في احدى الدول اتفق الطرفان الايراني والامريكي على عدم كشف اسمها، فضلا عن تسهيل عملية تبادل الغاز (SWAP) التي عقدها رئيس الجمهورية الايرانية ابراهيم رئيسي مع تركمنستان وتاجيكستان على هامش قمة “اكو” قبل اسبوع بقيمة 2 مليار دولار، وغض النظر الامريكي عن فتح بعض الاسواق العالمية امام شراء النفط الايراني ما اتاح لايران رفع مستوى انتاجها من هذه المادة والحديث عن استعادة حصتها الكاملة في الاسواق الدولية خلال الاشهر المقبلة.
التعتيم الذي يمارسه النظام على تفاصيل ما يجري في فيينا، والتأكيد على عودته السريعة لاستكمال جلسات التفاوض بعد اجراء مشاورات مع القيادة الايرانية حول ما سمعه في الجلسات الاولى من مواقف، قد يحمل في طياته محاولة لابعاد اجواء التفاوض عن الرأي العام الايراني بحيث يكون قادرا على التعامل مع ردات الفعل السلبية او الاننقادية، ويكون قادرا على تسويق اي تنازل قد يقدمه على طاولة التفاوض للخروج من الازمة التي باتت تطبق على الاقتصاد والاوضاع الداخلية، خاصة وان تأثير الاجواء السلبية لما جرى في فيينا انعكس سريعا على سعر العملية الوطنية التي شهدت انهيارا كبيرا وسريعا بعد ان شهدت تحسنا ملحوظا بالتزامن مع تحديد موعد المفاوضات.