سفير الشمال-غسان ريفي
ربما تأخر جورج قرداحي في تقديم إستقالته من الحكومة، وهو كان بوسعه أن يوفر على كثير من اللبنانيين بعضا من حرق الأعصاب والمخاوف والهواجس التي إنتباتهم على مستقبلهم أو مستقبل من يعيلهم نتيجة التأخر في إتخاذ هذا القرار الوطني، لكن في النهاية “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي”، فالاستقالة حصلت وهي من شأنها أن تريح الأجواء الدبلوماسية بين لبنان والمملكة العربية السعودية ودول الخليج بما يمكّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من وضع الملف اللبناني على طاولة المباحثات مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تمهيدا لاعادة وصل ما إنقطع بين البلدين الشقيقين.
لا شك في أن الاستقالة المنتظرة كانت نتاج عمل دؤوب وجهود مضنية بذلت من أكثر من جهة لبنانية ودولية، وهي أكدت حضور وصلابة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي حافظ على هيبة وقوة رئاسة الحكومة، وتعامل مع الأزمة بكثير من الحكمة والحنكة وأكد للمملكة العربية السعودية أنه يقرن قوله بأن “لبنان ملتزم بأفضل العلاقات معها ومع دول الخليج” بالفعل الذي ترجم باستقالة قرداحي.
منذ بداية الأزمة التي تشعبت وتشابكت بين رئاسية (التوتر بين بعبدا وعين التنية) وحكومية (تصريحات قرداحي) وقضائية (ملف مرفأ بيروت والمحقق العدلي طارق البيطار) إضافة الى تعطيل الحكومة حتى الوصول الى حل في الملف القضائي، رسم الرئيس ميقاتي خارطة طريق للمعالجة تضمنت محطات عدة بدأها بكسر الجليد المتراكم بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري بجمعهما في عيد الاستقلال، وتابعها باستقالة الوزير قرداحي، ومن المفترض أن يستكمل المرحلة الثالثة في البحث عن مخارج لملف القاضي بيطار عبر إقناع الجميع بضرورة إعتماد الآليات الدستورية وإحترام فصل السلطات والنأي بمجلس الوزراء عن كل الصراعات، تمهيدا للوصول الى عودة جلسات الحكومة لاستئناف مهمتها الانقاذية التي جاءت من أجلها.
كيف نضجت تسوية إستقالة قرداحي؟
تشير المعلومات المتوافرة الى أن الرئيسين عون وميقاتي كانا يستشعران خطورة المراوحة في حسم مسألة إستقالة قرداحي، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي الى إتساع الهوة بين لبنان وأشقائه العرب، لذلك كان التفاهم بينهما على ضرورة إنجاز هذا الأمر الذي تمت مناقشته أيضا في اللقاء الثلاثي الذي عقد في عيد الاستقلال بمشاركة الرئيس نبيه بري.
في غضون ذلك زار الرئيس ميقاتي حاضرة الفاتيكان وإلتقى البابا فرنسيس الذي ترجم دعمه الكبير للبنان باجراء سلسلة إتصالات مع الرئيس الفرنسي ومع شيخ الأزهر في مصر وغيرهما للتأكيد على ضرورة التدخل الفاعل مع المملكة السعودية من أجل إعادة وصل ما إنقطع معها.
ومع بداية الاتصالات، وصلت الى الرئيس ميقاتي إشارات دبلوماسية بضرورة أن تشكل إستقالة قرداحي قوة دفع للرئيس ماكرون خلال زيارته السعودية بما يفتح أبواب النقاش حول الأزمة مع لبنان، فاستدعى الرئيس ميقاتي الوزير قرداحي ووضعه في أجواء التطورات الايجابية الحاصلة، وجدد الطلب منه تقدير المصلحة الوطنية العليا والعمل بموجبها، وفي ذلك دعوة سياسية راقية للاستقالة.
بالتزامن تحركت الماكينة الفرنسية باتجاه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي زارته السفيرة الفرنسية آن غريو في بنشعي حيث تشير المعلومات الى أنه خلال تواجدها أجرت إتصالا مع مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل الذي وضع فرنجية في أجواء المساعي التي يبذلها ماكرون والتي تحتاج الى قوة دفع لا تكون إلا باستقالة قرداحي، في حين بدا واضحا أن النتائج الايجابية الأولية لمباحثات فيينا قد إتخذت طريقها سريعا باتجاه لبنان ما أدى الى مرونة سمحت بتمرير هذه الاستقالة التي شكلت بادرة حسن نية تجاه السعودية بانتظار المساعي التي سيقوم بها ماكرون في هذا الاطار.
لا شك في أن مجرد التخفيف من حدة الأزمة الدبلوماسية مع الخليج العربي، ومؤشرات التوافق التي بدأت تلوح في سماء المنطقة إنطلاقا من فيينا، من شأنهما أن يساهما في إستكمال خارطة الطريق التي رسمها ميقاتي للحل، وصولا الى تطبيق الآليات الدستورية حيال ملف تفجير مرفأ بيروت بتفعيل المحكمة العليا لمحاكمة الرؤساء والوزراء في مجلس النواب الذي سيعقد جلسة تشريعية يوم الثلاثاء، الأمر الذي قد يُرضي جميع الأطراف ويفتح الباب لإستئناف جلسات الحكومة والبدء فعليا بمسيرة الانقاذ!..