لم تُوفّر الولايات المتّحدة، خلال السنوات القليلة الماضية، أيّ فرصة لاستعادة نفوذها في أميركا اللاتينية. وفي هذا السبيل، جاء اشتغالها المنظّم على إزاحة الحكومات الاشتراكية في تلك المنطقة، واستبدال أخرى يمينيّة بها. نجحت هذه المحاولات في عدّة دول، من مِثل الإكوادور، بالانقلاب على الرئيس اليساري رفائيل كوريا عام 2010؛ من ثمّ البرازيل، حيث أخرجت واشنطن، عبر حلفائها هناك، الرئيس اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، من الحُكم عام 2011، عبر انقلابٍ سياسي، تلته اتهاماتٌ للرجل بالفساد أوصلته إلى السجن. وكان لولا، الذي وصفه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بأنه «أكثر شعبية منّي… إنه أكثر شعبية من كلّ الكرة الأرضية»، قد أحدث أكبر تحوّل في تاريخ الاقتصاد البرازيلي، ليحتلّ الأخير المرتبة الثامنة على مستوى العالم، وليَخرج أكثر من 20 مليون برازيلي من تحت خطّ الفقر.
بالوتيرة نفسها والأدوات عينها، حاولت الولايات المتحدة استكمال مخطّطها في دول لاتينيّة أخرى، على رأسها بوليفيا، حيث استطاعت، من خلال تدبير انقلاب عسكري أيضاً، إطاحة الرئيس الاشتراكي إيفو موراليس، والإتيان بحكومة يمينيّة بقيادة المعارِضة جانين آنيز، لكن سرعان ما عاد حزب موراليس، «الحركة نحو الاشتراكية»، بعد عام واحد، إلى السلطة، من خلال انتخاباتٍ أدّت إلى صعود الاشتراكي لويس آرسي إلى كُرسيّ الرئاسة. بعدها، اتّجه الأميركيون إلى فنزويلا، التي جرّبوا فيها كلّ ما يمكن تجريبه من أجل إزاحة الرئيس الاشتراكي، نيكولاس مادورو، من دون جدوى، ليعود الأخير ويعزّز موقعه في الانتخابات التي جرت الأسبوع الماضي، هازِماً خوان غوايدو الذي كانت اعترفت به واشنطن «رئيساً انتقالياً» إثر الانقلاب الفاشل ضدّ مادورو. وبالانتقال إلى نيكاراغوا، فقد دعمت الولايات المتحدة احتجاجات عام 2018 للمطالبة بتنحّي الرئيس اليساري، دانيال أورتيغا، الذي لم يلبث أن عاد وثبّت شرعيّته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت الشهر الفائت، بحصوله على نحو 70% من الأصوات. أمّا في كوبا، الرازحة تحت الحصار الأميركي منذ ستينيات القرن العشرين، فقد أمدّ الأميركيون معارِضي الحُكم اليساري فيها بالدعم المالي والإعلامي اللازم لقلْب المعادلة لصالحهم في الشارع، إلّا أن رهانهم ذاك ثَبُت أنه في غير مكانه.

أدركت واشنطن، منذ البداية، أن مهّمتها في بلدان «محور الشرّ»، كما وصفها جون بولتون سابقاً، وهي كوبا وفنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا، معرّضة للفشل، وذلك بِحُكم قوّة الأحزاب اليسارية هناك وتجذّرها شعبياً، لكن ما لم يكن في حسبانها هو عودة تلك الأحزاب أقوى ممّا كانت عليه في فترات سالفة، عبر الاستحقاقات التي شهدتها دول مختلفة من جنوب القارّة في السنوات الثلاث الماضية، والتي سجّلت تغلّباً لليسار الوسط على منافسيه من اليمين. وقد بدأت سُبحة هذا الصعود في المكسيك، التي لم تَعهد حُكماً يسارياً في تاريخها الحديث؛ إذ انتخبت عام 2018، بأغلبية ساحقة، لوبيز أوبرادور، كأوّل رئيس اشتراكي، لتنتقل «العدوى» إلى بنما مع فوز اليساري لورنتينو كورتيزو بالرئاسة عام 2019، مروراً بالأرجنتين مع فوز المرشّح اليساري ألبرتو فرنانديز بالانتخابات الرئاسية عام 2019 أيضاً، ومن ثمّ البيرو التي فاز المرشّح اليساري بيدرو كاستيو برئاستها في تموز الماضي، ليتعرّض سريعاً – الأسبوع الفائت – لمحاولة انقلاب ناعمة عبر اقتراحٍ لإقالته روّجه المشرّعون اليمينيّون في البرلمان البيروفي، وصولاً إلى تشيلي التي شهدت جولة انتخابات رئاسية أولى قبل أيام أظهرت تقدّماً للمرشّح اليساري جابرييل بوريك على منافسه اليميني خوسيه أنطونيو كاست، وليس انتهاءً بهندوراس التي خاضت، الأحد، انتخابات رئاسية أفضت إلى عودة الحزب اليساري إلى السلطة بعد 12 عاماً من حُكم اليمين، عبر مرشّحته سيومارا كاسترو، زوجة الرئيس الأسبق مانويل زيلايا، الذي أطاحته واشنطن بانقلابٍ عام 2009. ويأتي كلّ ما تَقدّم فيما تشير التقارير إلى احتمال عودة البرازيل إلى حُكم اليسار في انتخابات الرئاسة التي ستجري العام المقبل، في ظلّ ارتفاع حظوظ لولا، وتدنّي شعبية الرئيس الحالي اليميني جايير بولسونارو، بسبب سياساته الاقتصادية وفشله في التعامل مع تفشّي فيروس «كورونا».
في خلفية تلك التحوّلات، يبدو أن صعود اليسار مجدّداً في أميركا اللاتينية يأتي، بالدرجة الأولى، كردّ فعل على السياسات الليبرالية الجديدة المدعومة أميركياً، والتي انتهجتها الحكومات الشعبوية في معظم دول جنوب القارّة خلال العقد الأخير، بما أدّى إلى أزمات اقتصادية حادّة، تمثّلت مظاهرها في ارتفاع نسب البطالة، وتدنّي مستويات المعيشة، واتّساع رقعة الفقر، وتعمّق التفاوت الطبقي إلى حدّ امّحاء الطبقة الوسطى. أمّا العامل الرئيس الآخر وراء هذا الصعود، وفق مراقبين، فيتمثّل في تجذّر الإرث اليساري والعداء التاريخي للولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية، والذي يغذّيه توفّر هذه المنطقة على مستوى عالٍ من النشاط السياسي والتحشيد الشعبي. على رغم ذلك، ستكون منهجية اليسار في السنوات المقبلة تحت الاختبار؛ فهل ستستطيع الأنظمة الاشتراكية الوليدة أو المتجدّدة إيجاد حلول للمشاكل العاصفة بدول الجنوب، خصوصاً بعد انتشار وباء «كورونا»، وما خلّفه من آثار اجتماعية واقتصادية فادحة؟ وهل سيعود النموّ الاقتصادي إلى الانتعاش والازدهار، كما حدث حين حَكم رافاييل كوريا الإكوادور، ولولا البرازيل؟