ديلما روسيف أثناء حضورها أمام المحكمة العسكرية في ريوديجانيرو، بعد عشرين يوماً من اعتقالها سنة 1970، وتعرّضها لتعذيب وحشي في زنازين الديكتاتورية البرازيلية التي كانت قائمة آنذاك (من الأرشيف)
الأخبار- وليد شرارة
فقرة أخرى في مداخلة لولا، تلقي الضوء على كيفية تكوّن “النخب” السياسية والاقتصادية المرتبطة بتلك الهيمنة، عبر “مسارات تاريخية جرى خلالها الاستيلاء العنيف على الأرض والموارد، وشنّ حروب إبادة على السكّان الأصليين، وممارسة العبودية لمدّة ثلاثة قرون”. الرئيس البرازيلي الأسبق كان يصنَّف قطباً لـ”الاعتدال” و”الواقعية”، من قِبَل البلدان الغربية والمؤسّسات الاقتصادية الدولية، خلال الحقبة التي انزاحت فيها أميركا اللاتينية نحو اليسار، والتي بدأت مع وصول هوغو تشافيز، القطب الأكثر جذرية بنظر الجهات نفسها، إلى السلطة في عام 1998. يضفي ذلك أهمّية خاصة على موقفه الذي يعود للتذكير بحقائق أساسية حول ما يدور في هذا الجزء من المعمورة. فما يحصل اليوم في أميركا اللاتينية ليس مجرّد منافسة بين أحزاب يمينية وأخرى يسارية للتداول على السلطة، كما تجري العادة في الرأسماليات البرلمانية الغربية. نحن أمام فصل جديد من معركة تاريخية مديدة، بين السيطرة الغربية ووكلائها المحلّيين، وكثيرون منهم يتحدّرون من عائلات المستوطنين البيض، من جهة، وشعوب عازمة على الانعتاق الحقيقي منها، وتقرير مصيرها ومستقبلها بنفسها، من جهة أخرى.
دورات البناء والهدم
أيّ قراءة جدّية للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أميركا اللاتينية، لا يمكن أن تتجاهل المُعطى البنيوي التاريخي الذي ساد بعد”اكتشافها”، وهو صيرورتها فضاءً مستباحاً للنهب من قِبَل المستعمرين الأوروبيين أولاً، والولايات المتحدة ثانياً، والذي أسهب المفكّر والصحافي إدواردو غاليانو، وهو من بيرو، في شرحه في كتابه المرجعي “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية”، الصادر في عام 1971. يفصّل غاليانو منذ الفصل الأول، ذي العنوان اللافت: “شقاء الإنسان كنتاجٍ لثروات الأرض”، عمليات استيلاء القوى الغربية على الموارد الزراعية والمعدنية على مدى قرون، وما استلزمته من هندسة سياسية ــــ اجتماعية أفضت إلى نشوء نُظُم تابعة تسود فيها تراتبية اجتماعية ــــ عرقية هرمية شديدة القسوة، يحتلّ فيها أبناء “العائلات”، أي أحفاد المستوطنين البيض، الموقع الأعلى. خاضت شعوب القارّة وقواها الثورية، لعقود طويلة، نضالاً مريراً للتحرّر الوطني والاجتماعي، تحوّلت خلاله بلدانها إلى “مختبر العالم الثالث”، أي الفضاء الذي تُختبر فيه سياسات مكافحة الحركات الثورية، الساعية إلى التغيير السلمي أو العنيف، عبر الانقلابات العسكرية وتقنيات القمع والترويع والقتل، من خلال “فِرَق الموت” والإخفاء القسري وبناء منظومات الاعتقال والسجن والتعذيب. تشير نعومي كلاين، في “عقيدة الصدمة”، إلى أن مثل هذه السياقات هي التي أتاحت أيضاً الاختبار الأول للوصفات النيوليبرالية في تشيلي، بعد انقلاب أوغستو بينوشيه على الرئيس المنتخَب ديموقراطياً، سيلفادور أليندي، في عام 1973.
غير أن التحوّلات الديموقراطية التي حصلت في تلك البلدان، منذ ثمانينيات القرن الماضي، أحيَت آمال القوى الوطنية والثورية بإمكانية الشروع بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية لمصلحة الأغلبيات الشعبية، بعد الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. وقد عبّرت “موجة اللون الزهري”، أي فوز القوى اليسارية في الانتخابات في فنزويلا والبرازيل وبوليفيا والإكوادور وتشيلي والأرجنتين ونيكاراغوا والأوروغواي، عن اقتناع هذه الأخيرة، في ظلّ موازين قوى محلية وإقليمية ودولية مؤاتية، بسبب التراجع التدريجي، ولكن الملموس، للهيمنة الأميركية، أوّلاً، بقدرتها على تحقيق أهدافها، ولو بطريقة تدريجية هي الأخرى. ولكن هذا الرهان اصطدم مجدّداً بإصرار الولايات المتحدة والشرائح المحلّية الوكيلة على إفشاله، ولو عبر اللجوء إلى نمطٍ مستحدَث من الانقلابات، كما تمّ في البرازيل والإكوادور وبوليفيا، ومحاولة فاشلة لذلك في فنزويلا. وفي البرازيل مثلاً، عملت القوى الرجعية التي استولت على السلطة، وخاصة بعد انتخاب جايير بولسونارو، وفقاً للولا، على هدم كلّ الإنجازات التي حقّقها “حزب العمّال” في ميادين عدّة، كإعادة توزيع الثروة لمصلحة الطبقات الشعبية، وخلْق فرص العمل، ومكافحة الفقر (إخراج 36 مليون إنسان من حالة الفقر المدقع)، وتأمين شروط لائقة للسكن والتعليم والطبابة. والسبب في ما تَقدّم واضح بالنسبة إليه: “لقد تصدّينا للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية ولتفكيك الدولة وللخصخصة من دون معايير، وقاومنا مصالح اقتصادية ومالية وجيوسياسية وازنة في داخل البرازيل وخارجها. لضرب مشروع السيادة الوطنية وفرض العودة إلى النيوليبرالية، كذبوا على أبناء الشعب لإيصال فريق استبدادي وظلامي إلى سدّة القرار”. لسنا أمام تداول سلمي للسلطة، بل أمام مشاريع واشنطن وحلفائها لهدم إنجازات القوى الوطنية.
عناد المَقصيّين
هناك فارق كبير بين مآلات المشاريع الانقلابية الهدّامة، التي تقودها قوى اليمين المحلّي في أميركا اللاتينية بدعم من واشنطن، وتلك التي وقعت بإشرافها في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، يرتبط أساساً بتَغيّر موازين القوى الدولية والمحلّية. على المستوى المحلّي، فإن نجاح الأحزاب الوطنية والثورية في تعبئة وتنظيم قطاعات جماهيرية عريضة من شعوب القارة، بينها السكّان الأصليون، عانت لقرون من أنماطٍ مختلفة من التنكيل والإقصاء، وإدخالها إلى حلبة السياسة، قد عزّزا من قوّتها ومن قدرتها على خوض صراع طويل وصعب. أمّا على المستوى الدولي، فإن انحدار الإمبراطورية الأميركية وما يترتّب عليه من فقدان متزايد للقدرة على التحكّم بمجريات الصراعات، والدور المتنامي لروسيا والصين في أميركا اللاتينية، والصلات الوثيقة التي تجمعهما بقواها الوطنية ، عوامل تُوسّع من هامش مناورة هذه الأخيرة. كوبا وفنزويلا صامدتان على رغم الحرب الهجينة الأميركية، والانقلاب فشل في بوليفيا، ومعظم التوقّعات ترجّح هزيمة بولسونارو في الانتخابات المقبلة في البرازيل. لم تَعُد شعوب القارّة ترتضي أن تكون بلدانُها جمهوريات موز، أو قصب سكّر، أو كاوتشوك، أو مناجم وآبار نفط، وأن يستمرّ نزف شرايينها المفتوحة كرمى لظمأ “الأسياد البيض” الذي لا يرتوي!