مارك كانشيان
في إطار التصاعد الراهن للصراع العالمي على الهيمنة بين الولايات المتحدة والصين، نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS دراسة أعدها الكولونيل المتقاعد، مارك كانشيان Mark F. Cancian، في نوفمبر 2021، حيث تناولت ملامح استراتيجية وخطط القوات البحرية الأمريكية خلال العام 2022، من حيث التعداد والعتاد وغيرها من التطورات الداخلية، فضلاً عن التحديات التي تعيق عملية تطويرها.
أعداد القوات:
شهدت أعداد أفراد القوات البحرية الأمريكية تصاعداً ملحوظاً منذ نهاية الحرب الباردة، حتى بلغت ذروتها في عام 2002 بحوالي 383,000، إلا أن هذا العدد تراجع بشكل مضطرد بعد ذلك، حتى بلغ أدنى مستوى له في عام 2012، حينما وصل إلى نحو 318,000. وعلى الرغم من الزيادة التي طرأت عليه في السنوات التالية، فلا يزال أقل من المستويات التي بلغها في مطلع القرن الحالي. ومن المتوقع أن يبلغ إجمالي عدد القوات البحرية الفعلية في الخدمة في السنة المالية 2022 حوالي 346,200، ما يعني انخفاضاً بمقدار 1600 فرد عن 2021، وهو ما يتسق مع خطة البحرية في المدى القريب في إخراج السفن القديمة ذات الأطقم الكبيرة من الخدمة، فضلاً عن خطة انتقال أعداد محدودة من أفراد البحرية إلى القوة الفضائية “Space Force”.
من ناحية أخرى، على الرغم من أن القوة البحرية النهائية كانت مستقرة تقريباً منذ عام 2014، إلا أن احتياطي البحرية من المتوقع أن ينكمش بمقدار 500 فرد ليصل إلى حوالي 58,300 في السنة المالية 2022. وفي الواقع، تشير التقديرات إلى وجود انخفاض مضطرد في القوات الاحتياطية البحرية، وهو ما قد يُعزى إلى خروج جميع سفن الاحتياط البحرية عن الخدمة، فضلاً عن العديد من طائرات الاحتياط البحرية، وبالتالي، فإن القوات المتبقية ستكون مخصصة أساساً للخدمات اللوجستية والدعم.
حجم الأسطول:
تجدر الإشارة في البداية إلى أن الميزانية المقترحة لسنة 2022 تتضمن مقترحاً من قبل الرئيس الأمريكي ببناء ثماني سفن فقط في 2022، منها، أربع سفن مقاتلة “Combatants”، وقد يضيف الكونجرس سفناً إضافية عند إقرار الميزانية النهائية التي ستقدم للرئيس لاعتمادها، لكن من المتوقع أن يكون العدد النهائي للسفن الممولة في السنة المالية 2022 أقل من ميزانيات بناء السفن في السنوات الأخيرة. ويرتبط هذا الانخفاض بتراجع الميزانية المخصصة لبناء السفن التابعة للبحرية من 23.3 مليار دولار في 2021 إلى 22.6 مليار دولار في 2022، وهو ما يجسد الانخفاض العام في ميزانية وزارة الدفاع.
إلا أن خريطة توزيع حجم الأسطول، وفقاً لعمر الخدمة المتوقع، يعكس حاجة البحرية الأمريكية إلى زيادة معدل بنائها للسفن، فضلاً عن أهمية تغيير النمط المعتاد، والذي ينطوي على فكرة الخروج المبكر عن الخدمة للقطع البحرية سواء بسبب التقادم، أو لضغوط الميزانية، وهو ما يظهر بوضوح في ميزانية السنة المالية 2022؛ حيث تقترح الميزانية التقاعد المبكر لخمسة طرادات Cruisers من طراز CG-47، وسفينة إنزال واحدة LSD ، وأربع سفن قتالية ساحلية LCS.
وفي الواقع، يمثل حجم الأسطول أهمية خاصة في العقيدة العسكرية الأمريكية، نظراً لدوره المحوري في دعم عمليات الانتشار البحري من أجل الاستجابة للأزمات، ودعم الحلفاء والشركاء، والقيام بمهام الردع التقليدي، والتصدي للصراعات الإقليمية، والمحافظة على النفوذ في الخارج، ولضمان بقاء الممرات المائية المهمة مفتوحة للتجارة. مع ذلك، فإن هناك قلقاً متنامياً من انخفاض حجم البحرية مقارنةً بحجم المهام التي يتطلب القيام بها، ومن ثم باتت الحاجة ملحة للتوسع.
إلا أن هذا القلق بشأن حجم الأسطول وعمليات الانتشار يتعارض مع التوجيهات الواردة في التوجيه الاستراتيجي للأمن القومي المؤقت “Interim National Security Strategic Guidance”، واستراتيجية الدفاع الوطني لإدارة ترامب، وكلاهما يركز على صراع القوى العظمى، لاسيما ضد الصين، ويدعو إلى تعزيز القدرة “Capability”، ولا يركز على الاستيعاب/ الحمولة “Capacity” (الحجم).
مستقبل هيكلة الأسطول:
فعلياً، لا تزال خطة إعادة هيكلة الأسطول – من حيث حجمه وتكوينه – في مرحلة التحضير، حيث لا تُظهر ميزانية السنة المالية 2022 أي إشارة لملامح هذه الخطة، ومن المفترض أن تظهر بعض هذه الملامح في وثائق موازنة العام المالي 2023. مع ذلك، فإن إدارة بايدن نشرت خطة توضيحية لبناء السفن لمدة 30 عاماً، كما تم التخلي عن خطتين سابقتين تم طرحهما خلال فترة إدارة ترامب، تمثلت إحداهما في خطة تستهدف الوصول بحجم الأسطول البحري إلى 355 سفينة، أما الخطة الثانية، فعُرفت بـــ”خطة ترامب المتأخرة” (late Trump plan) والتي انطوت على خطة لبناء السفن خلال الثلاثين عاماً المقبلة اعتباراً من ديسمبر 2020.
لكن تتطلب خطة بايدن لإعادة الهيكلة موارد ضخمة تفوق ما تم تخصيصه لبناء السفن في أي ميزانية سابقة، لذا، فمن المرجح أن يكون الأسطول الفعلي أصغر بكثير مما تتصور هذه الخطط، كما سيتطلب تقليص الخطط لتناسب الأموال المتاحة بعض القرارات الصعبة وغير الشعبية، مثل الخروج المبكر عن الخدمة للسفن وإبطاء بناء بعض أنواع السفن.
وقد قدر مكتب الميزانية بالكونغرس (CBO) تكلفة هذه الخطة التي طرحها بايدن بنحو 25 مليار دولار سنوياً على مدار 30 عاماً، وذلك مقارنة بمتوسط يبلغ حوالي 23 مليار دولار سنوياً خلال السنوات الخمس الماضية، وعلى الرغم من التقارب الكبير بين خطة “ترامب المتأخرة” والخطة الاسترشادية لإدارة بايدن، بيد أن الأخيرة تعد أصغر حجماً مع الاعتماد أكثر على السفن الصغيرة، إلا أن معضلة التكاليف المرتفعة تظل هي الإشكالية الكبرى أمام هذه الخطة، ويمكن تناول أبرز ملامح هذه الخطة من خلال العناصر التالية:
- الحاملات: لطالما كانت الحاملات هي محور الأسطول الأمريكي، لكن التقييمات الأخيرة لهيكل القوة تضمنت انخفاضاً في عدد الحاملات. وفي ظل الالتزامات التعاقدية والقيود السياسية، قد تظل البحرية مقيدة بالحجم الحالي لسنوات عديدة بغض النظر عن الاعتبارات الاستراتيجية. من ناحية أخرى، كثيراً ما انتقد الخبراء الاستراتيجيون حاملات الطائرات بسبب تكلفتها العالية، حيث يرى العديد من الاستراتيجيين أن حاملات الطائرات الكبيرة هي أنظمة “قديمة”، وقد تعهدت إدارة بايدن بالتخلي عنها تدريجياً، على الرغم من أن خطته تضمنت إضافة حوالي 9-11 حاملة جديدة.
وقد اقترحت دراسة حديثة أجرتها لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب تحويل التمويل من حاملة طائرات واحدة إلى استخدام عدة مركبات جوية بدون طيار بدلاً من ذلك، ومع ذلك، تبقى الأهمية الكبيرة لهذا النوع من الحاملات قائمة للاستجابة اليومية للأزمات والصراعات الإقليمية، وقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة فكرة الاستعانة بالحاملات الأصغر حجمًا “Light Carriers”، وهو ما أكدت الدراسة الصادرة عن مؤسسة RAND والتي رجحت بأن خيار هذا النوع من الحاملات ستكون أكثر جاذبية.
- المقاتلات ذات الأسطح الكبيرة Large Surface Combatants (LSCs): يُمثل هذا النوع من المقاتلات العمود الفقري للأسطول، ومع ذلك، فإن المفاهيم الجديدة للعمليات الموزعة “Distributed operations” والمنصات القابلة للاستنزاف تفضل المقاتلات الصغيرة بدلاً من المقاتلات الكبيرة والمكلفة. وتمتلك البحرية الأمريكية في الوقت الراهن 94 من المقاتلات الكبيرة، وفي إطار الخطة التي كان ترامب يسعى من خلالها للوصول إلى 355 سفينة، فقد كان من المفترض أن يصل عدد المقاتلات الكبيرة إلى نحو 104، في المقابل تستهدف خطة بايدن تضييق نطاق هذا النوع من المقاتلات إلى ما بين 63 و65، واجمالاً تتصور خطة إعادة الهيكلة التي يجري التحضير لها إجراء تخفيضات كبيرة في هذا الأسطول، مما يعني ضمنياً خفض الإنتاج وزيادة أعداد حالات الخروج المبكر من الخدمة. وتجدر الإشارة إلى أن أحد الآثار الرئيسية للتخفيضات في قوة هذه المقاتلات هو أن عدد قاذفات الصواريخ سينخفض بشدة.
-
المقاتلات ذات الأسطح الصغيرة Small Surface Combatants (SSCs): تتضمن المقاتلات ذات الأسطح الصغيرة فرقاطات، وسفن قتالية ساحلية (LCS) وسفن لمكافحة الألغام، فهي أصغر حجماً وأقل قدرة من الطرادات والمدمرات، كما أن تكلفتها تمثل نصف تكلفة المقاتلات الكبيرة، وقد تضاءل دورهم منذ نهاية الحرب الباردة، لكنه عاد الاهتمام الاستراتيجي بهم، في ظل تصاعد وتيرة المنافسة الدولية بين القوى العظمى، حيث يمكن للخصوم الوصول إلى مسافات طويلة وتهديد خطوط الاتصال البحرية الأمريكية. في هذا السياق تعد مقاتلات SSCs مفيدة أيضاً في توفير هيكل قوة بحرية أكثر توزيعاً داخل المنطقة الدفاعية للخصم وللقيام بأنشطة المنطقة الرمادية في وقت السلم عندما تكون القوات البحرية الكبيرة غير مناسبة، وتشير خطط إعادة هيكلة البحرية كافة التي طُرحت خلال السنوات الأخيرة إلى الاتجاه لزيادة أعداد هذه النوعية من السفن، بيد أن الاختلاف يرتبط فقط بمقدار الزيادة ومدى السرعة في تحقيق هذه الزيادة.
-
سفن برمائية صغيرة: ثمة اتجاه جديد لإدخال السفن البرمائية الصغيرة وتخفيض عدد السفن البرمائية الكبيرة التي اعتاد عليها سلاح البحرية ومشاة البحرية وتعطيل صناعة بناء السفن المرتبطة بها. مع ذلك، كما هي الحال مع المقاتلات الكبيرة، فإن مصالح الشركات المصنعة سوف تتعارض مع الأهداف الجديدة في تخفيض أعدادها، وتتضمن خطة إدارة بايدن تحقيق 8 – 9 أرصفة لهبوط طائرات الهليكوبتر (LHAs / LHDs)، بالإضافة إلى 16 – 19 منصة هبوط (LPDs) باجمالي 24 -28 سفينة برمائية كبيرة، وهو ما سيتمخض عنه انخفاض حجم الأسطول مقارنة بالأسطول الحالي وبنية الأسطول السابقة. ويعزى هذا الموقف إلى التغيرات التي أدخلها سلاح مشاة البحرية في خططه للعمليات البرمائية.
-
الغواصات الهجومية: تحظى الغواصات الهجومية (SSNs) وغواصات صواريخ كروز (SSGNs) بدعم قوي من الاستراتيجيين العسكريين، وذلك نظراً لأهميتهم الاستراتيجية وقدرتهم على التخفي، في ظل صراعات القوى العظمى. وعلى الرغم من تصور خطة الهيكلة المستقبلية زيادة في حجم أسطول الغواصات الهجومية، إلا أن التكلفة الباهظة لإنتاج هذه الغواصات (حوالي 3.5 مليار دولار لكل منها)، فضلاً عن محدودية الطاقة الإنتاجية للغواصات والتي تعمل بأقصى معدل لها، سيمثل قيوداً على فكرة زيادة حجم أسطول الغواصات.
-
غواصات الصواريخ الباليستية: لا يزال برنامج غواصات الصواريخ الباليستية من فئة كولومبيا “Columbia-class Ballistic Missile Submarine program”، والذي سيحل محل الغواصات الحالية من فئة أوهايو، يحظى بأولوية قصوى، ويتمتع بدعم قوي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لذا فإنه من غير المحتمل أن يتأثر بأي تغييرات في خطط بناء السفن المستقبلية. فجميع خطط إعادة هيكلة الأسطول طرحت الهدف ذاته والمتمثل في 12 غواصة، (هذا أقل من المخزون الحالي البالغ 14). وعلى الرغم من التحديات الكبيرة المتعلقة بتكاليف هذه الغواصات، إلا أنه نظراً للأولوية العالية لهذا البرنامج، سيتم تمويله بالكامل، إذ إن أي تأخير في البرنامج من شأنه أن يعطل قوة الردع النووي الأمريكي، وينطوي هذا الأمر على إشكالية أخرى تتعلق بأن أي زيادة في التكلفة يمكنها تعطيل البرامج الأخرى لبناء السفن.
-
السفن غير المأهولة Unmanned: أصدرت البحرية الأمريكية إطار لخطتها المرتبطة بالسفن غير المأهولة “Unmanned Campaign Framework” في مارس 2021، حيث حددت أولوياتها لجميع أشكال الأنظمة غير المأهولة. وفي هذا الإطار، تقسم البحرية أنظمتها غير المأهولة إلى أربع مجالات هي الهواء، والسطح، وتحت سطح البحر، وتحت الأرض. في حين أن كلا المجالين الأرضي والجوي بهما مركبات غير مأهولة انتقلت إلى مرحلة الإنتاج التسلسلي العادي، فإن المركبات السطحية غير المأهولة (USVs) والمركبات غير المأهولة تحت سطح البحر (UUVs) لا تزال في مرحلة النموذج الأولي ولا توجد خطة حتى الآن خطة إنتاج واضحة.
-
الطيران البحري: توفر طائرات البحرية القوة الضاربة لحاملة الطائرات، ونظام السلاح المركزي في البحرية الأمريكية، وبالتالي تلعب دوراً أكبر في البحرية الأمريكية مقارنة بالقوات البحرية الأخرى، وفي السنة المالية 2022، يقترح الطيران البحري شراء 107 طائرات من جميع الأنواع، مقارنة بـ144 طائرة في السنة المالية 2021، لكن في المجمل يعد الطيران البحري في حالة جيدة، سواء من حيث المخزونات المستقرة، ومتوسط العمر، لكن ثمة تحديات ربما تواجه هذا الاستقرار، تتمثل في حاجة البحرية إلى زيادة مشترياتها من الطائرات في المستقبل للحفاظ على المخزونات الحالية، فضلاً عن التكاليف العالية التي ستتحملها للحفاظ على مخزونها من الطائرات، ويضاف لذلك البطء في استخدام الطائرات من دون طيار (UAVs).
في النهاية، لا تزال خطة إعادة هيكلة البحرية الأمريكية قيد الإعداد حتى الآن، وهي تحظى باهتمام كبير من قبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري في محاولة حثيثة لتوسيع وتحديث البحرية وضمان استمرارية الهيمنة الامريكية، إلا أن هذه المحاولات تصطدم بالميزانيات المحدودة وعمليات الخروج المبكر عن الخدمة للقطع البحرية، وهو ما جعل تحقيق هذا الهدف أمراً بالغ الصعوبة.
المصدر:
Mark F. Cancian, U.S. Military Forces in FY 2022: Navy, Center for Strategic and International Studies, NOVEMBER 2021.