خريطة طريق لاستنهاض الحالة التغييرية

يوسف سلامة-نداء الوطن

واهمٌ من يظنّ أن باستطاعته توحيد الثورة حول مشروع وطني متكامل مستنسخ عن عقائد جامدة للفكر السياسي، ويعود ذلك الى أن لبنان يعيش أزمات عدة وليس أزمة واحدة فحسب، والى أن الجذور الطائفية “للشعوب اللبنانية” حالت حتى اليوم دون تكوين الهوية الوطنية الجامعة والقادرة على رسم خريطة طريق واحدة لمستقبل آمن ومحصّن. فالأزمات التي تعصف بلبنان متنوّعة ومتكاملة، بدءاً من الأزمة الوجودية بجذورها الطائفية مروراً بأزمة الانتماء والهوية، وصولاً إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على تنوّعها.

لقد ترافق تعدّد الأزمات مع بنية متنوعة للمجتمع اللبناني ساهمت بدورها في استفحال المحنة وفي عدم تدارك سرعة الانهيار، عوض أن تشكّل غنىً لو قُــيِّض له أن يتفاعل بانتظام لكان واجه أكبر الأزمات وأكثرها تعقيداً.

فإضافةً إلى التنوّع الطائفي والمذهبي الذي يتمايز به لبنان، ينقسم اللبنانيون كما كل المجتمعات إلى عقلاء وغرائزيّين، إلى مسالمين وعنفيّين، إلى مثقفين وجهلة، علاوةً على انقسامهم العقائدي بين اليمين المتنوّر واليمين الغبي، وبين اليسار المتّزن واليسار الحاقد.

إزاء هذا النسيج المتشابك، يبدو لي أنّ أقصى ما نطمح إليه كقوىً اعتراضية في المجتمع هو أن نتحوّل إلى حالة قيامية، فيتوحّد العقلاء منا والمتنوّرون والمسالمون حول مشروع إنقاذي يداوي أزماتنا الوجودية والاجتماعية معاً، وتتبنّاه قوى حيّة في الثورة على مساحة الوطن بمختلف طوائفه ومذاهبه بحكمةٍ وتعقّل.

بمعنىً آخر، المطلوب ثورة على الثورة لا بهدف شرذمتها بل بهدف تنقيتها وتفعيلها لتتحوّل إلى ثورات متجانسة بتركيبتها، تلتقي مرحلياً على ما تلتقي عليه وتنفرد في ما تتمايز به.

وفي هذا الاطار يبدو أن محاربة الفساد قد تكون القاسم المشترك الوحيد الذي تجمع عليه هذه القوى الاعتراضية بكل تلاوينها، رغم أنها قد لا تتّفق في ما بينها على العلاج الشافي لهذه الآفة.

لذلك كله:

ندعو الحالة الاعتراضية في المجتمع اللبناني التي تشكّل الحاضنة الأساسية لثورة 17 تشرين الى أن تنمو وتتفاعل بحرّية بدل أن تتحوّل إلى حالة إلغائية بحقّ بعضها البعض وبحقّ الآخرين، وعندها تتمكّن من الإجابة على هواجس الناس المتفاقمة والمتنوّعة. فالإجماع على كلّ شيء منافٍ للعقل النيّر الحرّ الخلاّق، وللعقلانيّة والواقعية أيضاً.

فهل ثمّة حدّ أدنى ممكن من التوافق على برنامج عمل مرحلي ومتكامل لمكوّنات هذه الثورة؟

أم قـدَرنا أن نغرق في وحول متحرّكة على طريق شائكة رسمت خرائطها غرائز قاتلة وطائفية إلغائية تمكّنت من مسارات حياتنا الوطنية؟

ما أخشاه أن نكون لا نزال في بداية الطريق تنتظرنا ثورات على الثورة التي ستظلّ تأكل نفسها إلى أن تتبلور رؤيةٌ للحلول القادرة على معالجة أزماتنا الوجودية والاجتماعية على السواء.

فلنستفِد من تجارب الأمم ومن دروس التاريخ، ولنذهب باتجاه بناء دولة مدنية اتحادية حيادية، نتفاهم معاً على طبيعتها وأطر تنظيمها، دولة تلاقي واقع لبنان الجغرافي وتحترم بنية شعبنا وتنوّعه وتداوي هواجسه وطموحاته.

يتطلّب ذلك أن نتخلّى عن غرائزنا الإلغائية لكلّ آخر ومختلف، فنعترف بخصوصيّاتنا ونتكامل ونؤسّس لثقافة الحياة معاً قبل فوات الأوان.

إن التطور هو عصب الحياة، فلنحيَ معاً.

Exit mobile version