بواسطة حنين غدار
قاد «حزب الله» حملة سياسية ضد القاضي طارق بيطار، وحتى أرسل مسؤوله الأمني الأعلى، وفيق صفا، لتهديده الشهر الماضي. ومع ذلك، لم يتزحزح بيطار من موقفه، لذلك لجأ «حزب الله» إلى نهج مختلف، وهو ربط دعوة الجمهور للعدالة بالتهديد بمزيد من أعمال العنف في الشوارع أو حرب أهلية أخرى. ومن خلال حماية القاضي قبل انتخابات العام المقبل، يمكن للمجتمع الدولي أن يساعد في تعزيز المساحة الصغيرة ولكن المهمة التي يمثلها البيطار داخل المؤسسات اللبنانية المتعثرة التي يهيمن عليها «حزب الله».
عندما تأهّبت عناصر مسلحة من «حزب الله» وحليفته «حركة أمل» للقتال ضد مسلحين مجهولين في منطقة الطيونة ببيروت الأسبوع الماضي، لم يكن القتال عرضياً أو غير مسبوق. ومع ذلك، فقد شكّل مفترق طرق خطير للبنان، لا سيّما حالياً حيث يقود القاضي طارق بيطار مرحلة جديدة مهمة في التحقيقات في قضية انفجار المرفأ في عام ٢٠٢٠. وزادت الاشتباكات أيضاً من التوترات الطائفية في وقت تحاول فيه الفصائل استمالة الناخبين قبل الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في آذار/مارس ٢٠٢٢.
السياق السياسي والأمني
تصاعدت حدة التوترات منذ فترة – وبشكل رئيسي منذ أن بدأ بيطار في استدعاء المسؤولين السياسيين والأمنيين لاستجوابهم وإصدار أوامر توقيف بحق آخرين (على سبيل المثال، النائب عن «حركة أمل» علي حسن خليل). وقاد «حزب الله» حملة سياسية ضد القاضي، وحتى أرسل مسؤوله الأمني الأعلى، وفيق صفا، لتهديده الشهر الماضي. ومع ذلك، لم يتزحزح بيطار [من موقفه]، لذلك لجأ «حزب الله» إلى نهج مختلف، وهو ربط دعوة الجمهور للعدالة بالتهديد بمزيد من أعمال العنف في الشوارع أو حرب أهلية أخرى، على غرار ما حدث عندما فتحت عناصر «الحزب» النيران على مواطنين لبنانيين في أيار/مايو ٢٠٠٨.
ومع ذلك، أسفرت خطة «حزب الله» عن نتائج عكسية عندما أظهرت مقاطع فيديو انتشرت على نطاق واسع، أنصار «الحزب» وهم يدخلون الأحياء المسيحية ويستفزون السكان. وأثار ذلك انتقادات شديدة من الشارع المسيحي، بما في ذلك من قبل أنصار رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي لطالما كان حليفاً لـ «حزب الله». وأظهر مقطع فيديو آخر ضابطاً في “الجيش اللبناني” يطلق النار على عناصر من «حزب الله» – وهو أمر لم يتوقعه «الحزب» ولم يرحب به. ولعل الأهم من ذلك، أن العنف لم يُخِف القاضي بيطار لدرجة بحيث يقوم بتقديم استقالته.
وهذه ليست المرة الأولى التي تؤدي فيها ردود فعل الشعب ضد «حزب الله» إلى أعمال عنف هذا العام. ففي آب/أغسطس، شهدت بلدة خلدة السنية اشتباكات مسلحة بين رجال قبائل مسلحون وأنصار الميليشيا، في حين استولى قرويون دروز في شويا على شاحنة تحمل منصة صواريخ تابعة لـ «حزب الله» لمنع عناصر «الحزب» من إطلاق النار على إسرائيل من بلدتهم. ولكنّ الشارع المسيحي والأحزاب التي تمثّله هي أكثر أهمية لأن بيدها المفتاح الذي يُمكِّن «حزب الله» من الحفاظ على سيطرته على الحكومة. لذلك، كرّس زعيم «الحزب» السيد حسن نصرالله معظم خطابه بعد اشتباكات الطيونة لطمأنة المجتمع المسيحي الأوسع والاستخفاف بالفصائل المسيحية الفردية التي لا تدعم «حزب الله» – لا سيّما حزب «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع.
وبالنظر إلى الترسانة المهيبة لـ «حزب الله» وهيمنته على معظم المؤسسات اللبنانية، فقد يتساءل المرء لماذا لم يُعزل بيطار ببساطة من التحقيق في قضية انفجار المرفأ. لقد حاول «الحزب» بالتأكيد فعل ذلك، غير أن فشله يسلّط الضوء على إمكانات القضاء كمساحة صغيرة لا يستطيع «حزب الله» إخضاعها بسهولة لأجندته. ولا يشّكل بيطار هاجساً لقادة «الحزب» بسبب تصميمه الشخصي فحسب، بل أيضاً لأنه يمثل مؤسسة قادرة على تحديهم إذا لم تسْرِ الانتخابات لصالحهم. وفي الواقع، إن المشاعر المعادية لإيران والميليشيات التي هزت الانتخابات البرلمانية التي جرت هذا الشهر في العراق قد أثارت الدهشة على الأرجح في بيروت. وإذا كان جزء من النظام على استعداد لتحدي تحالف «حزب الله» حالياً من خلال التحقيق في قضية انفجار المرفأ، فبإمكان المحاكم أو أجزاء أخرى من النظام أن تتحداه مرة أخرى أثناء الانتخابات أو بعدها. وهذا سيناريو لا يستطيع «حزب الله» المخاطرة به، حتى لو كان ذلك يعني تأجيل انتخابات العام المقبل أو إلغائها.
وفي الوقت الحالي، من المرجح أن يؤدي فشل «الحزب» في الإطاحة ببيطار من خلال ضغط الشارع إلى العودة إلى القانون. فقد تعهّد «حزب الله» أساساً بمواصلة مقاطعة جلسات مجلس الوزراء إلى حين تلبية مطالبه. وهذا التكتيك يمكن أن يكسبه الوقت لإيجاد آليات قانونية للتدخل [في التحقيق الذي يجريه] بيطار، مثل عرقلة جهوده لاستجواب السياسيين أو استباق تحقيقه من خلال تشكيل لجنة برلمانية للتدقيق في انفجار المرفأ بطريقة محدودة وآمنة من الناحية السياسية.
المخاطر والفرص
إن جلسات مجلس الوزراء معلّقة حالياً – من الناحية الفنية، يمكن للمجلس أن ينعقد بدون «حزب الله» و«حركة أمل»، لكن الأعضاء الآخرين لا يجرؤون على القيام ذلك. وهذا الطريق المسدود أوقف بشكل أساسي جميع الخطوات الحيوية التي من المتوقع أن تتخذها الحكومة فيما يتعلق بمفاوضات “صندوق النقد الدولي” والإصلاحات الأخرى المحتملة (رغم أنها غير واعدة)، لذلك من المرجح أن ينهار الاقتصاد حتى بدرجة أكبر.
وقد يتدهور الأمن أيضاً. إذ يسير “الجيش اللبناني” على خيط واهن للغاية نظراً إلى تصاعد التوترات الطائفية بين الجماعة المسيحية بقيادة جعجع والقاعدة الشيعية لـ «حزب الله». وقد أصدر المسؤولون العسكريون بياناً أشاروا فيه إلى أن الضابط في “الجيش اللبناني” الذي أطلق الطلقة الأولى في معركة الطيونة يخضع للتحقيق، لكن تسريحه أو معاقبته قد يفاقم حدة التوتر، ومع مرور الوقت، قد يؤدي إلى تآكل الروح المعنوية الهشة لـ “الجيش اللبناني” وفعاليته.
ومهما يحدث، ستركّز جميع الأحزاب بلا شك على الانتخابات البرلمانية كونها مصدر قلقها الأساسي، في محاولة للاستفادة من توترات الشارع لتعزيز فرصها في الانتخابات. وسيحاول حزب جعجع تقديم نفسه على أنه أقوى ممثل للمسيحيين، بينما سيواصل «حزب الله» انتقاده. وسيكون الخاسر الرئيسي في هذا السيناريو هو الجماعات المناهضة للمؤسسة التي تشكلت منذ الاحتجاجات الجماهيرية في عام ٢٠١٩.
وعلى المدى القصير، إذاً، قد يكون من الحكمة أن تتجنب جماعات المعارضة الشعبية المواجهة الطائفية المتصاعدة (التي تخدم المؤسسة السياسية فقط) وتركّز على القضية الأكثر إلحاحاً اليوم وهي: السعي لتحقيق العدالة مع حماية النظام القانوني وممثليه. بإمكان المجتمع الدولي أن يساعد من خلال دعم القاضي بيطار وحمايته، حيث قد يكون الحيّز المؤسسي والدعم العام الذي يرمز إليهما حاسمَين لتجاوز السيناريوهات المقلقة قبل الانتخابات وبعدها.
ومن جهته، سيبذل «حزب الله» كل ما في وسعه لوقف التحقيق في قضية المرفأ لأن جهود بيطار تهدد سيطرة «الحزب» الشاملة على السلطة. لذلك، إذا وجّهت واشنطن والجهات الفاعلة الأخرى رسالة قوية حول أهمية المساءلة فيما يتعلق بانفجار المرفأ، فإن ذلك لن يساعدها في تأمين مسار للعدالة لهذا الحادث بعينه فحسب، بل سيعزز أيضاً جزءاً مستقلاً نسبياً من القضاء. وقد يشعر القضاة بعد ذلك بأنهم أكثر تمكّناً لتقديم بعض الحماية ضد أي موجات جديدة من العنف أو الاغتيالات التي قد تظهر في الأسابيع المقبلة. ومن خلدة مروراً بشويا ووصولاً إلى الطيونة، أصبح عدد كبير من اللبنانيين يعتبرون اشتباكات الشوارع بأنها الطريقة الوحيدة للتعبير عن إحباطهم ضد «حزب الله» والنخبة السياسية الأوسع. لذلك، فإن الحفاظ حتى على مساحة صغيرة من المساءلة داخل مؤسسة حكومية واحدة، من الممكن أن يساعد في كبح جماح هذا الغضب وتقليل مخاطر العنف وتعزيز المؤسسات الأخرى المتعثرة.
ولا تشكل التسوية السياسية خياراً في ظل الظروف الحالية. فإبرام صفقة سياسية لتهميش بيطار ستقضي على المساحة السيادية الوحيدة المتبقية داخل المؤسسات اللبنانية. والخيار الآخر الوحيد هو حماية بيطار وضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة في آذار/مارس. وسيحاول «حزب الله» محاربة السيناريو الثاني، ربما من خلال التهديد بمزيد من انعدام الأمن والعنف. ومع ذلك، فإن سيناريو الاضطرابات المدنية محفوف بالمخاطر بالنسبة لـ «الحزب» – فقد سبق وأن أدت هذه الاستراتيجية إلى نتائج عكسية ثلاث مرات في الأشهر الثلاثة الماضية.
لذلك قد يختار المسؤولون بدلاً من ذلك تأخير الانتخابات أو إلغائها. ومع خسارة الميليشيات المدعومة من إيران في التصويت الذي جرى في العراق واكتساب «حزب الله» سمعة في الداخل على أنه حامي الشخصيات الفاسدة والمجرمين، فإن «الحزب» وحلفاءه معرضون لخطر الخسارة إذا أجريت الانتخابات في الموعد المحدد. وبالنظر إلى التحقيق الذي يجريه بيطار والضغوط الأخرى، فإن التخلي عن سيطرته على السلطتين التشريعية والتنفيذية سيكون خطيراً للغاية بالنسبة إلى الآفاق العامة لبقائه السياسي في لبنان. ومن المحتمل أيضاً أن يدرك «حزب الله» أنه ليس بحاجة إلى اللجوء إلى العنف لتأجيل الانتخابات – فقد يكون تدهور الأوضاع الاقتصادية أو مجرد تلميح للتدهور الأمني كافياً لمجلس النواب لتبرير هذا القرار.
ولذلك، فإن ضمان إجراء الانتخابات في الوقت المحدد وتحت إشراف دولي أمر حيوي. ولكنّ ذلك لا يكفي – على المجتمع الدولي أيضاً المساعدة في حماية أولئك الذين لديهم الشجاعة في لبنان للوقوف في وجه المؤسسة السياسية، واتخاذ خطوات تحميهم من العنف والاعتقالات والاستجوابات العشوائية والتهديدات. كما أن السياسيين الشيعة الذين يترشحون ضد “حزب الله” يحتاجون إلى حماية إضافية أيضاً، و”الجيش اللبناني” هو المؤسسة الوحيدة القادرة على توفير هذه الحماية. لذلك على واشنطن أن تنظر في استخدام برنامج المساعدة الأمنية لـ “الجيش اللبناني” كوسيلة للاستفادة من المكاسب المحققة من هذه الحماية قبل الانتخابات.