توزيع خسائر النظام المالي بالتساوي على 3 كيانات “مفلسة” لا يساهم بالتعافي الاقتصادي وعد خطّة النهوض بإرجاع الودائع كتعهّد “جحا” بتعليم “الحمار الكلام”
التناقض في التصاريح قد يعني اختلافاً في وجهات النظر، أو اتفاقاً على تطيير المفاوضات مع صندوق النقد، أو حتى جهلاً فاضحاً عند البعض بالمعطيات والأرقام الاقتصادية. وفي جميع الأحوال تمارس المنظومة السياسية والمصرفية لعبة الاختلاف نفسها التي أدت إلى تطيير المفاوضات بعد 18 جلسة مع الصندوق في العام الماضي، بهدف تحميل عبء الأزمة للمواطنين عبر التضخم.
تحميل الخسائر يتطلب القدرة على التسديد
العقدة تبقى بالتوصل إلى تفاهم لكيفية توزيع الخسائر، حتى لو تمّ الاتفاق على رقم مخفض لها. فما كشفه وزير الاقتصاد أمين سلام في مقابلة مع قناة “الحرة” عن خطة “لتحميل الخسائر بالتساوي بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف التجارية بنسب تتراوح بين 30 و35 في المئة، على أن يتحمل المودع نسبة 10 في المئة فقط”، لا يختلف بشكل جذري عن السابق فحسب، بل يعتبر “غير منطقي وينم عن عدم معرفة دقيقة بمفهوم الخسائر وطريقة توزيعها”، برأي الخبير المصرفي ورئيس مجموعة FFA Private Bank جان رياشي، “إذ لا يمكن بالمنطق تحميل خسارة لمؤسسات عاجزة بمليارات الدولارات ولا تمتلك أصولاً لتغطيتها. فخسارة مصرف لبنان على سبيل المثال تقدر بالحد الأدنى، حتى مع احتساب قيمة الذهب الموجود، بـ 45 مليار دولار. فكيف له أن يؤمن الأموال بالدولار لرد الديون أو تحمل الخسائر؟
ما ينطبق على مصرف لبنان يسري على الدولة. فالأخيرة مديونة للمصارف والجهات الخارجية بـ 35 مليار دولار تمثل سندات “اليوروبوندز”. وحتى لو افترضنا أن حصة الداخل تقدر بـ 10 مليارات دولار فقط، فلا يمكن للدولة التعويض للدائنين المحليين بدون الأجانب الذين يحملون 25 ملياراً. من هنا تحمّل الدولة للخسائر يعني وجوب تسديدها 35 مليار دولار. فمن أين ستأتي بها، إذا كانت كل أصولها لا تصل إلى ربع هذا المبلغ بأحسن السيناريوات”، يسأل رياشي، فـ”هناك فرق في هذا الصدد بين مفهوم الخسائر وتحمّلها. فخسائر الدولة على “اليوروبوندز” تمثل اقتطاع 75 في المئة من قيمتها أي ما يعادل 26 مليار دولار. أما تحملها فيتطلب تأمين هذا المبلغ لتسديده للدائنين”.
وهم ارجاع الأموال
إنطلاقاً مما تقدم يظهر جلياً أن “المسؤولين استلهموا حل الأزمة المالية من “قصة جحا والملك والحمار”، يقول رياشي. فكما راهن جحا على موت واحد منهم لقبوله تعليم الحمار الكلام بعد 20 عاماً مقابل قطع رأسه، يراهن المسؤولون على اقناع المواطنين والدائنين بارجاع ودائعهم وديونهم بعد فترة زمنية طويلة، بخططهم “السفسطائية” التي “تليلر” الودائع وتعطي المودعين سنداً لاسترجاع وديعتهم بقيمتها الأصلية بعد 20 عاماً”.
المعالجات المطروحة قد تبرّد قلوب المودعين لكن على الأكيد “لا تنهض بالاقتصاد”، من وجهة نظر رياشي. فان لم تتم معالجة جذرية للخسارات المحمولة من القطاع المصرفي سيبقى متعثراً وستبقى البنوك (الزومبي) قائمة على ما هي عليه اليوم، ولو بيّنت الهندسات صورياً تحررها من الخسائر. في الوقت الذي نصت فيه خطة التعافي الأولى على توزيع الخسائر بين المركزي والمصارف التجارية بشكل أساسي، لن تحمّلهما الخطة الجديدة بحسب سلام أكثر من 35 في المئة. والاقتطاعات التي كانت تنوي تنفيذها الخطة القديمة على سندات “اليوروبوندز” بنسبة 75 في المئة، وسندات الليرة بنسبة 40 في المئة، واحتساب نسبة تعثر القروض الخاصة بـ 35 في المئة، كانت كفيلة بمحو رأسمال المصارف البالغ وقتها 31 ألف مليار ليرة، أو ما يقارب 20.5 مليار دولار. في حين لن تحمّل خطة النهوض الاقتصادي حسبما يظهر إلا 30 في المئة للمصارف من أصل رأسمال مفروض أن يكون ارتفع إلى 24 مليار دولار. أي ان حصة المصارف من الخسائر ستقارب 7.2 مليارات دولار. وذلك انطلاقاً من اعتبارات جمّة أهمها تخفيض نسبة ما ستتحمله من الديون المعدومة للقطاع الخاص، اقتطاع 45 في المئة من السندات بالدولار، وعدم الاقتطاع من سندات الليرة.
العدالة غائبة
المشكلة أن هذه الحلول لا تأخذ بعين الاعتبار “مبدأ العدالة”، برأي رياشي، “ولا سيما أن النظام الرأسمالي ينص على عدم تحميل الدائنين أي خسارة قبل أن يتحمل المساهمون الخسارة كاملة”. ما يعني أن المودع بصفته دائناً يجب ألا يتحمل أي خسارة قبل تخسير المساهمين كل رساميلهم. لكن “اذا سلمنا جدلاً أن الحق في الانهيار ليس مسؤولية المصارف وحدها، وتغاضينا عن احتفاظ المصارف بجزء من رساميلها لكي تستطيع الاستمرار، لا يمكن في المقابل الابقاء على 60 مصرفاً على قيد الحياة”. من هنا يستخلص رياشي أن “المفروض إيجاد الطريقة الصحيحة لفصل البنوك الرديئة عن تلك القابلة للحياة. مع العلم أنه بحسب ارقام الودائع بالدولار في القطاع المصرفي نستنتج أن كل المصارف مفلسة. اما اذا قاربنا الواقع من جهة تحويل الودائع إلى ليرات، يظهر أن هناك إمكانية لبعض عمليات الانقاذ في القطاع”.
الواقعية في الطروحات التي نحتاج اليها في هذا الظرف العصيب، تتطلب بالاضافة إلى المعرفة، أمرين أساسيين بحسب رياشي:
الأول، ألا يؤدي تضارب المصالح إلى توقف إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد.
الثاني، ألا تكون الحلول المقترحة على حساب المواطنين عموماً. فلا يجوز بأي شكل من الاشكال تحميل المواطنين عبء الازمة من خلال التضخم وانهيار الليرة. ذلك أن ليس كل المواطنين يملكون ودائع في المصارف، وثلاثة أرباع الشعب اللبناني يعتاش من الأجور بالليرة.