“إستبيان غربي”: لا إنتخابات؟
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
إذا كانت “الثورة” اعتقدت أن في إمكانها النوم على حرير بعد رقم الـ245 ألفاً الذي سجّله المنتشرون، فهي مخطئة. أساساً، لا مجال للحسم في أن الرقم أعلاه مطوّب بإسمها! فكما فعلت حين جيّشت قواها الإعلامية والإعلانية سعياً وراء حثّ المغتربين على التسجيل، كذلك عملت قوى السلطة بمختلف ألوانها ولو أنها ابتعدت عن اعتماد الأطر المنظورة ذاتها.
في الواقع، تَكيد السلطة للثورة من دون أن تحتسب الأخيرة. يتركونها تنعم بملذات الأرقام ومن خلف ذلك “ينجّرون” لها. و “الحفر” على الطريقة التي انتهى إليها المشهد في نقابة المحامين في بيروت، مؤذية، لا بلّ لها أن تلحق ضرراً بالغاً بقوى الثورة المسمّاة “بدائل”، بحيث يتسنّى للمرء الظنّ أن لا قيامة من بعدها.
أحياناً، يغيب عن ذهن قوى التغيير تلك، أو من يديرهم من مجموعات في الداخل، أنها تتعاطى مع سلطة “نموذج” في الدهاء، وتكاد تكون أنجزت استعدادها للمواجهة تحت شعار “يا قاتل يا مقتول”، عبر ابتكار خططٍ موضوعية استباقية وفق الغريزة الهجومية. وبينما تغرق قوى 17 تشرين في محاولة إنجاز توليفة تعاونية معينة بين مجموعاتها وأركانها، تعمل السلطة بهدوءٍ وتنظيم على محاولة “خردقتهم” بأسماء مرشحة، عملياً، تعمل عند السياسيين أو في خدمتهم بعدما استطاعوا استهواءهم نتيجة الرغبات المصلحية وما شاكل.
ودون أدنى شك، فإن القوى الحاكمة اليوم والممثّلة سواء بأكثرية أو أقليّة نيابية، لن تكون في وارد التخلي بسهولة عن مكتسباتها وامتيازاتها ضمن النظام –وهذا ما تتجاهله الثورة-، وستذهب في معركة الدفاع إلى أبعد مدى، وعلى الأغلب الأعمّ، ستُنشّط قواها الإستثنائية وستوظّفها في سبيل صون موقعها. فإذاً مواجهة قوى التغيير للسلطة لن تكون “نزهة” مقارنة مع الواقع الحالي، وهو ما لا يبدو أن تلك القوى قد فهمته جيداً.
وإلى الآن بحيث لم يبق يفصلنا عن الإستحقاق سوى أشهرٍ معدودة، لم تحسم “قوى الثورة” أمرها حيال طبيعة تمثيلها ضمن الإنتخابات المقبلة، وهذه علامة ليست من صالحها، وكان يجدر أن تحسم أمرها حيال طبيعة المرشحين باكراً لكي تكفل التسويق لهم. وإذا نظرنا بعمق إلى طبيعة النقاشات الجارية، يبدو طابع الفرقة والضياع السياسيين يغلب عليها. فمنصّتي “كلنا إرادة” و “نحو الوطن” بصفتهما محرّكين بارزين لجمع قوى الثورة في بوتقة واحدة، ما زالتا عاجزتين عن توحيد المجموعات عند كلمة سواء واحدة. وإن أخذنا انتخابات نقابة المحامين في بيروت معياراً، لوجدنا أن الضياع والإفتراق يخيّمان ويرجح أن يشملا الاستحقاقات المقبلة، ويبدو أن هذا المسار سيسود لدى الكتل المعارضة المتنافرة عن بعضها وقد ينقلها إلى مستوى النزاع وتنازع الأصوات من بعضها البعض ما يعني “فرطعة قواها الحية” إن وجدت.
في المقابل، تبدو الأحزاب والتيارات أكثر ديمومة وحركة. فقد فعّلت ماكيناتها الإنتخابية باكراً، وبدأت عمليات الإحصاء والإختيار. ويبدو أنها رصينة أكثر من حيث قراءة طبيعة المشهد الإنتخابي. أكثر من ذلك، يبدو أنها جادة في استلهام الذرائع المفيدة وتوظيفها في إدارة المعركة. في النتيجة هي صاحبة تجربة وتمتلك من التأثيرات ما يكفي لتحقيق هدفها.
إذاً قوى الثورة تُقارع سلطةً متمرّسةً في السياسة والحيل ولديها نخب راسخة في عمق النظام، وهذا يتطلب مجهوداً من أجل اختيار الصالح وصاحب القدرة على خوض المواجهة، وهذا يُظهر عجزاً في مكان ما لدى قوى الثورة ومحرّكيهم، لذلك نجدهم في دوائر كثيرة، يذهبون صوب إبرام التفاهمات السياسية مع شخصيات خرجت من النظام حين ارتطم في الأرض!
لكن من قال أنه وبعد كل ذلك اجراء الإنتخابات مضمون، بمعنى أن التواريخ التي حُددت لها باتت ملزمة لجميع الأطراف؟
قراءة بعض السفارات لا توحي بالخير بتاتاً. هذه وبالرغم من مدّها الدعم لجماعات مجتمع مدني محددة، فإن الشكّ يتسلل إليها من إمكانية عدم تحقيق هؤلاء المطلوب منهم في الإنتخابات، بمعنى قدرتها على الإتيان بفئة ذات تأثير ضمن حدود معينة في مجلس النواب. وبناءً على الشكّ بفقدان هذا العنصر، يُخيّل إلى البعض إمكانية أن تُبرم الصفقة ما بين السلطة من جهة وقوى الخارج الداعمة لجبهات الإعتراض ممثلةً بسفاراتها في الداخل من جهة أخرى، فيتمّ الإنقضاض على موعد الإنتخابات النيابية وتكريس تمديدٍ “محدود لأسباب تقنية” متعددة، في الغالب تنجح السلطة في ترسيخها ولا مشكلة لديها في ذلك متى أنها قابضة على عنق النظام.
و يسترعي الإنتباه في هذا الإطار، تقريرٌ وُضع على طاولة مرجعٍ سياسي، عبارة عن استبيان قامت به إحدى مؤسسات الإستطلاع لصالح سفارات غربية خلال الفترة الفاصلة بين الصيف والخريف الحاليين، استبطن خشيةً و ضبابيةً حيال الظروف التي تخدم في العادة تعبيد الطريق أمام البدائل.
ويكشف الإستبيان الذي شمل عيّنة من اللبنانيين على مستوى كافة الدوائر، غياب المرجعية الصالحة بالنسبة إلى قوى التغيير لدى الناس. ففي حين أجابت نسبةٌ كبيرةٌ من المستفتين في بيروت وجبل لبنان واقضية الشمال، أنها في وارد منح أصواتها لتيارات بديلة، كان الضياع ماثلاً لديهم حيال عجزهم عن الإجابة على سؤال محدد حول ما إذا كانوا يعلمون هوية من سينتخبون سواء جبهةً أو مرشحاً، فظهر أنهم يجهلون البديل ولا يعلمون عنه شيئاً! هذه النقطة تحديداً تثير الخشية من احتمالية تراجع نسبة الإقتراع إن بقي الإهمال والجهل يطغى على طبيعة الترشيحات ومن سيمثّله قوى التغيير قبل أشهر قليلة جداً من افتتاح صناديق الإقتراع.
في المقابل، وهنا مصدر الإرتياب، أجاب جزءٌ من المستفتين على نفس السؤال بأنهم في وارد التراجع عن منح أصواتهم إلى قوى التغيير في حال جهلوا بمرشحيهم أو كان هؤلاء من فئة المستفيدين من السلطة في مراحل سابقة، وبالتالي سيفضّلون منح أصواتهم إلى الأصيل لا الوكيل، في إشارةٍ إلى الخارجين عن السلطة. ولعلّ القضية الأبرز التي توقف عندها التقرير، كان ظهور عدم تبدّل في التوجهات لدى فئة عريضة من المقترعين المفترضين رغم كل ما حصل ويحصل من انهيار وأزمة. فهؤلاء ما زالوا يفضّلون منح أصواتهم إلى قوى السلطة بذريعة إمّا خشيتهم من البدلاء وتفضيلهم المعلوم لا المجهول، وإما لاقتناعٍ من قبلهم بالتوازنات المطوّبة في النظام.
وعليه، وفي ظل غياب الوضوح عن قوى التغيير وهو ما ينسحب على كامل النظرة إلى الإستحقاق، جاء التقييم النهائي للإستبيان غامضاً، ويكرّس وضعية الأحزاب، مع إشارة إلى احتمال عدم حصول تغييرات جوهرية على طبيعة التركيبة السائدة في مجلس النواب عملاً بأسباب عديدة منها مواد قانون الإنتخاب، وإنما حصول تبديلات تكتيكية على صعيد الكتل النيابية عبر مناقلات في المقاعد من – إلى، لا تخدم وجهة النظر القائلة بإنجاز تغييرٍ على طبيعة الخريطة النيابية وإدخال عناصر مختلفة تفيد في تحقيق تغييرٍ في التركيبة.
بناءً عليه قد تكون في هذا المقام أسبابُ تطيير الإستحقاق، لرغبةٍ في تمديد الإستثمار في السياسة عبر المزيد من الضغط الإقتصادي الذي تعتقد قوى كبرى أن في إمكانها إدخال تغييرات على المزاج الشعبي، وبالتالي لا مشكلة في تأجيلٍ زمني محدود إذا كان يوفّر تأمين تغييرٍ بشكل أكبر في ميزان القوى.