سعادة مصطفى أرشيد*-البناء
في أعقاب التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، أصدر عراب ومهندس تلك الاتفاقية، شمعون بيريس كتابه الشهير: «الشرق الأوسط الجديد»، وقد عبّر فيه عن مجمل وخلاصة الرؤى السياسية لحزب العمل «الإسرائيلي» في حينه، وقد اعتبرت نظرية شمعون بيريس أن شرق أوسط جديداً آخذ بالتشكل، وأنّ «إسرائيل» سوف تكون جزءاً محورياً وشرعياً ومقبولاً من النظام الإقليمي الناشئ، الأمر الذي لم يعجب اليمين «الإسرائيلي» في حينه، وأثناء إلقائه محاضرة في مجموعة من الطلبة «الإسرائيليين» لتسويق نظريته الجديدة، هاجمه طلاب إحدى الجامعات من المتطرفين اليمينيين، متهمين إياه بالتخلي عن الحق التوراتي الرباني، وعن مشروع «إسرائيل» الكبرى، أجابهم ساخراً: إنه هو ونظريته من يعملون لتكريس الحقّ الرباني و«إسرائيل الكبرى»، ولكن مع تغيّر العالم، فلم يعد ذلك ممكناً بالسيف والكرباج والبندقية، وإنما بالتكنولوجيا والاقتصاد ومشاريع الربط الاقتصادي، فهذا العالم دائم التغيّر والتطوّر. وأنهى كلامه قائلاً: لا تقولوا إنني قد تغيّرت، وإنما العالم من حولي قد تغيّر. وهكذا فإنّ المشروع الغربي الصهيوني لا يزال ثابتاً في جوهره ومضمونه، وإنْ مسّ التغيّر من مظهره وشكله الخارجي فقط.
يوم الاثنين الماضي، تمّ الاحتفال في إمارة دبي بالتوقيع على اتفاقيتين بين أطراف ثلاثة، الأردن، الإمارات و«إسرائيل» وذلك بحضور السياسي الأميركي المخضرم جون كيري، الاتفاقية الأولى تهدف إلى إنشاء حقول خلايا شمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية في صحراء الأردن لصالح توريدها وبيعها لـ»إسرائيل»، والاتفاقية الثانية تهدف إلى بناء محطة تحلية مياه على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث تحلى مياه البحر المالحة، ويتمّ ضخ الناتج المحلى للأردن ـ طبعاً بثمنه، وكانت الجهات الرسمية الأردنية قد بالغت أخيراً بالحديث عن أزمة مياه خطيرة تواجهها المملكة، تهيئة لقبول الرأي العام بها. علماً أنّ الحوار والمفاوضات حول الاتفاقيتين كان قد انطلق بعيد توقيع اتفاق (أبراهام) بين الإمارات والبحرين و«إسرائيل».
هكذا يكون شرق أوسط شمعون بيريس الذي بشر به في كتابه، قد أخذ يأخذ شكله العلني الفجّ والوقح، الدفع باتجاه جعل الترابط والتشبيك الاقتصادي والتكنولوجي واقعاً حقيقياً معاشاً، فهذا الارتباط والتشابك يجعل من احتمالية المواجهة العسكرية والسياسية ضعيفة، وتحتاج هذه الاتفاقيات لمنظومات استخبارية وأمنية مشتركة لحماية المشاريع من أية تهديدات مشتركة، فالسلام أمر واقع، ويمثل حاجة وضرورة لأطرافه، ثم أنّ هذا يحدّ من التشبيك والترابط القومي والعربي إلا إذا تمّ عبر الشريك «الإسرائيلي»، الذي سيمثل القاسم المشترك داخل الدائرة القومية والعربية، وبالطبع هذا ما نراه اليوم على الصعيد الرسمي، ولكن النظرية هذه ترى أنّ الصعيد الشعبي لن يلبث أن يلتحق بالرسمي وبفضل الثقافة النيوـ ليبرالية في المجتمع والاقتصاد، ومنطق السوق وجعل لكلّ شيء قيمته المادية المعزولة عن قيمته القومية والوطنية والأخلاقية ثم بعد ذلك، أن الحكومات سوف تأخذ بطريقة تشعر مواطنيها بلذة ثمار هذا السلام، فهذه المشاريع التي تكون بها «إسرائيل» طرفاً رئيساً، هي القادرة على إيصال الكهرباء إلى بيوت المواطنين من دون أن تنقطع، وهو ما تعجز عنه الدولة الوطنية، لا بل وحتى أيّ مشروع قومي لا تكون «إسرائيل» طرفاً به، وهذه المشاريع هي التي تدرأ عنه العطش، الذي تبالغ فيه المصادر الحكومية، وتهدده المشاريع الإقليمية، فإثيوبيا تفترس سدودها مياه نهر النيل وتعطش مصر والسودان، وتركيا بدورها تفترس مياه دجلة والفرات مهدّدة سورية والعراق بالعطش والجفاف.
لما كان موضوع اتفاقيات الكهرباء والماء هو شاغل المحتفلين يوم الاثنين الماضي في إمارة دبي، إلا أنّ مفاعيل اتفاقيات التطبيع المعقودة والتي ستعقد قريباً تبدو مفاعيل نشطة، وأدراج أطرافها مزدحمة بالمشاريع التي لا حصر ولا عدّ لها، والتي ستجمع كثيراً من المحتفلين الموقعين قريباً، وذلك بعد ما تأكد أنّ الاتصالات السعودية ـ «الإسرائيلية» قد قطعت أشواطاً قربتها من خط النهاية، التي قد تعلن قريباً إما على شكل زيارات متبادلة لمسؤولين من الدرجة الأولى، أو بالإعلان المباشر عن التطبيع الإبراهيمي، ولعلّ أحد المشاريع المرشحة للإعلان عنها قريباً، هو الشروع بالعمل لإنجاز وتشغيل خطوط سكة حديد تربط ميناءي حيفا وأسدود بالشرق، مع استخدام بقايا خطوط سكة الحديد العثمانية.
في فلسطين الحزينة، ينهار ما تبقى من المجتمع تحت وطأة صراعات عشائرية وحقوقية، فيما تعجز السلطة عن حلها إلا باللجوء إلى شيوخ العشائر الذين أصبحوا حاكماً بديلاً للسلطة القضائية، والسلطة تعاني أيضاً من أزمة رواتب قد تكون مماثلة لأزمة المياه في الأردن، أيّ أزمة ذات وظيفة لتبرير ما هو آت، وغياب فلسطين عن هذه الاتفاقيات ما هو إلا غياب ظاهري أو مؤقت، بالطبع المبرّر يتمّ العمل عليه، ماذا تفعل الحكومة أمام أزمة الرواتب مثلاً؟ وأمام التزامات كذا…؟ أكثر من أيّ وقت مضى، يتكشف بؤس السياسات المتبعة منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو، ولم يعد بالإمكان الاختفاء وراء رفع علم أو إصدار طابع بريد أو تعطيل المدارس والجامعات والدوائر الرسمية احتفالاً بعيد استقلال، ولم يعد سراً أنّ جبل أوسلو لن يتمخض إلا عن فأر حكم ذاتي على بعض مناطق الضفة الغربية فقط، فهذه جزء يسير من حصة «إسرائيل» الإقليمية، فقد أخذت تركيا ما تعتقد أنه حصّتها من سورية والعراق بالاحتلال، ومن ليبيا بالنفوذ وبالسيطرة على بعض البلد وقيادتها، فيما تأخذ «إسرائيل» حصتها في الضفة الغربية، أكثر مما أخذته تركيا، ولكن باحتلال ناعم مجملي لمناطق شاسعة، من دون عساكر وهدير آليات الحرب، ومن دون خسائر، لا بل ومع أرباح استثنائية.
الحكومات التي تشارك في هذه المشاريع وتلك اللاحقة بها قريباً، ما زالت على وفائها بأن تستعمل اللغة البائدة القديمة في بياناتها النمطية: نقف إلى جانب الأشقاء في فلسطين، ولا بديل عن حلّ الدولتين، وأنّ الدولة الفلسطينية يجب أن تقوم على كامل حدود أراضي الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، هذا على صعيد القول، أما على صعيد الفعل، فإنه يذهب باتجاه ما ورد في المقال أعلاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ