العميد الركن خالد حماده-اللواء
كثيرة هي العبارات الفاقدة للمضمون التي تضمّنتها كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بمناسبة الذكرى 78 للإستقلال. فيض من عموميات متكررة على مدى خمس سنوات تصح في أي مناسبة وفي أي دولة من دول العالم الثالث التي يرتع فيها الفساد السياسي والمالي والإنهيار الإقتصادي ويستباح الدستور والقانون، وكليشيهات اعتاد أباطرة الحكم المستبدون رفعها في كلّ مناسبة لتبرئة الذات وتضليل الرأي العام. هو خطاب ذر الرماد في العيون وتعميم الضبابية، ليس فقط بتجهيل المسؤول عما اعتبره عون «بحراً من الأزمات يغرق فيه الوطن»، بل بافتقاد جمهور لا يزال قادراً على الإستماع على المزيد من إنكار الفشل والتّهرب من المسؤولية واصطناع المواقف الوطنية وإخفاء شَبَق لا يوصف لمكاسب السلطة. باختصار كانت كلمة اللاكلمة في ذكرى اللإستقلال حيث لا مسؤول ولا جمهور ولا دولة ولا مؤسسات.
يخيّل للمستمع أنّ الرئيس يقص على بعض سامعيه ما تناهى إليه من حكايا السياسة، أو كأنّه يستعيد شريط ذاكرته كشاهد على العصر وليس كمسؤول أول عن القهر والجوع الذي يعانيه اللبنانيون. بدى الرئيس وكأنّه يتوجه لدولة أخرى بل يتمنى على مسؤوليها، من موقع النصح والتدليل المهذب على مكامن الخطأ والإرتكاب، دون امتلاك الجرأة لتسميّة الأشياء بمسمّياتها، وكأنه لا يمتلك الحق بذلك. كلّ المفردات والعبارات كانت تسير بين النقاط لتعبئة الهواء وليس أكثر.
بعد كلّ الفشل والإنحدار الذي يعانيه اللبنانيون، يحاول الرئيس تقديم نفسه بثوب الناسك السياسي الذي لا يملك سوى الدعوة إلى التزام الدستور وفصل السلطات والحريص على أفضل العلاقات مع الدول العربية، فيما يكاد أن يصنف خطيئة الوزير قرداحي في خانة الخطأ الذي ارتُكب بعفوية طفولية، ويعيد تعثّر الحكومات إلى العقبات المصطنعة بين متنافسين حيث لا سلطة له. أما الجهد الكبير لتبرئة الذات فهو في مقاربته للفساد المتجذّر منذ ثلاثين عاماً على حدّ قوله وتجاهل مشاركته وحزبه في السلطة منذ ثلاثة عشر عاماً حيث يريد وبمن يريد وفوق كلّ الإعتبارات الرقابية والقضائية.
جانب الرئيس في كلمته كلّ ما يمتْ للسيادة ولصانع أو موقع القرار من خلال مقاربة وصفيّة وسرديّة مملّة توشي بالتنصّل من مسؤولية ما أصاب لبنان، وتعلن عن وضع مأزوم وأُفق مغلق سيرافق اللبنانيين ويستحيل اختراقه أو تغييره. لقد أوحى الرئيس في الوقت عينه أنّه يتموّضع في بقعة انتظار لإطلاق مرحلة جديدة تستكمل مسلسل مسؤولياته الملتبسة الظروف، من استلام قيادة الجيش في العام 1984 إلى رئاسة حكومة إنتقالية خلافاً للدستور عام 1988 – كُلفت تأمين الظروف لإجراء إنتخابات رئاسية فأضاف رئيسها ما تيسّر له من أزمات لإعاقتها وحوّلها إلى حالة تمرّد بعد حروب عبثية – وليستكمل ما بدأه بعد عودته من احتضان فرنسي مساراً متقلّباً انتهى بتبوئه سدّة الرئاسة.
ما يجمع كلّ المحطات الآنفة الذكر أنّ كلاًّ منها شكّل نهاية لمرحلة وأتاح الظروف لمرحلة جديدة. ارتبط تسلّم قيادة الجيش بإسقاط اتّفاق 17 أيار في الميدان، كما جسّدت الحكومة الإنتقالية الفصل الأخير من عمر المارونية السياسية. وفيما قدّمت حالة التمرّد العصيّة على الفهم الحافز الدولي والإقليمي لمرحلة بدأت بدخول الجيش السوري إلى بعبدا وانتهت باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تحولّت العودة من باريس من نتيجة لثورة الأرز وقوى 14 آذار إلى منصة للإنقلاب عليها عبر الإنتقال من موقع سيادي مزعوم إلى اتّفاق مار مخايل لتغطيّة الإعتداء على السيادة واستباحتها وتغطية مرتكبيها وتهميش الأكثرية النيابية وفرض اتّفاق الدوحة كمدخل لإلغاء الإصلاحات الدستورية. وكانت الصفقة الرئاسية التي قامت على دعامتيّ حياد لبنان والإصلاح الهيكلي والإقتصادي والتي انقلب الرئيس على شروطها منذ اليوم الأول نذير الدخول في مرحلة تصفيّة ما تبقى من الدولة وبلوغ مرحلة ما يعانيه لبنان حالياً.
يدرك الرئيس عون أنّ إمكانية تحريك الحكم قد أضحت مستحيلة في ظلّ التعقيدات المتقابلة على خلفيّة التحقيق العدلي في قضية تفجير وأزمة العلاقات مع الدول الخليجية واستقالة الوزير قرداحي. وفي هذا وضعيّة مثالية يريدها رئيس الجمهورية وفريقه السياسي لكسب الوقت والتماهي مع أزمات الحلفاء الإقليميين ورهان على تعديل ميزان القوى الداخلي يقارب حدود المغامرة. فهل تتوّج المعوقات الدستورية المصطنعة التي توضع في وجه قانون الإنتخابات بالإعلان الصريح عن رفض تجديد السلطة التشريعية وبعدها الرئاسة الأولى؟ وهل يتحمّل المغامرون في ذلك تبِعات هذا الخيار وهل يضمنون ما ستكون علية مواصفات المرحلة الجديدة؟
في مسيرة الرئيس ميشال عون خمس سنوات لم يسجّل فيها سوى تدمير الدستور وإفشال المؤسسات وتعطيل الحكومات وفساد واستباحة للسيادة الوطنية، ولن تخرج السنة الأخيرة عن مسار التأزيم بل ستكون سنة الذروة. في مخيّلة الرئيس تصوّر لانتصار محتوم وفي وجدان اللبنانيين وعقولهم ليست السنوات الست سوى رئاسة عابرة لرئيس عابر.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات