مجدّدًا، اختار رئيس الجمهورية ميشال عون رفع سقف المواجهة والتصعيد، لا مع خصومه فحسب، ولكن مع حلفائه أيضًا، وعلى رأسهم “حزب الله”، بعد التباعد بين الجانبين الذي فجّرته الأزمة الحكومية المتفاقمة، على خلفيّة تعطيل الحكومة من جانب “الثنائي الشيعي”، حتى “فرض” تنحية المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار.
في رسالته لمناسبة عيد الاستقلال، كرّس عون هذا “التباعد”، بنقدٍ أكثر من واضح لأداء “الحزب” الحكوميّ، حيث قال إنّ المَخرَج ليس بمستعصٍ، ولا يتطلّب من المعنيّين سوى تطبيق الدستور، الذي يقوم على مبدأ “الفصل بين السلطات”، متهمًا المعطّلين من دون تسميتهم، بزيادة “الخناق على رقاب أهلنا وأحبتنا”، وتعريض المجتمع ككلّ للأذى الكبير.
لكنّ هذا الموقف “الرئاسي” قد لا يكون بجديد، إذ إنّ عون، ومن خلفه “التيار الوطني الحر”، يعترض على أداء الحزب، منذ تلك الجلسة الشهيرة للحكومة التي انقسمت فيها الآراء حول كيفية التعامل مع التحقيق العدلي، بعدما طالب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله مجلس الوزراء بـ”التصرف”، فكان ما كان، وتعطّلت الحكومة، وتجمّدت جلساتها.
إلا أنّه، رغم ذلك، يأتي في سياقٍ لا بدّ من التوقف عنده، وقد بلغ “ذروته” من خلال التصريحات الصحافية المنسوبة لرئيس الجمهورية التي تمّ تداولها في الأيام الماضية، وجوهرها نقل للمواجهة من الكلام والشعارات إلى الفعل، عبر إعلانه أنّه لن يوقّع أيّ مرسوم يصله لدعوة الهيئات الناخبة في آذار أو نيسان، وتمسّكه بالموعد الذي يرفضه “الثنائي”، أي أيار.
في هذه النقطة بالتحديد، قد يكون رئيس الجمهورية مُحِقًا، وفق ما يرى الكثير من الخبراء الانتخابيّين على الأقلّ، إذ إنّ إجراء الانتخابات في آذار، ولو كان ضمن “المهلة الدستورية”، إلا أنّه ينطوي على الكثير من “المَخاطِر” التي من شأنها تعريض العملية الانتخابية برمّتها للخطر، خصوصًا أنّ التحضيرات الفعلية بدأت متأخّرة، وما عاد بالإمكان احترام المهل.
وسبق لرئيس الجمهورية أن عرض وجهة نظره من هذا الموضوع قبل أن يردّ التعديلات إلى مجلس النواب، الذي اختار أن يعيد التصويت عليها كما هي، ولو أنّ تحديد موعد الانتخابات لا يعود إلى البرلمان في النهاية، ولذلك جاء في “توصية” لا أكثر، إلا أنّ الخشية أنّ وزير الداخلية يتصرّف برأي كثيرين كـ”منفّذ للتوصيات” لا كـ”مبادِر فعليّ”.
لكن، ماذا لو وصلنا فعلاً إلى هذه النقطة، وتحقّق هذا “السيناريو”؟ ماذا لو أصرّ المصرّون على إجراء الانتخابات في آذار، ووصل مرسوم بهذا المعنى إلى رئيس الجمهورية؟ هل يحقّ له عدم التوقيع عليه؟ وماذا لو لم يوقّع؟ هل يذعن الأطراف الآخرون، فيتمّ تعديل التوقيت ببساطة، وتنتهي الأمور بسلام وخير؟.
لعلّ السيناريو الأخير قد يكون أكثر الأمور “المُستبعَدة” للعارفين بالكواليس والدهاليز للبنانيين، ممّن يدركون أنّ ساسة لبنان أبعد ما يكونون عن الرغبة بإنهاء الأمور “بسلام وخير”، ما يجعل “الخشية” من تفاقم الخلاف، ووصوله إلى مستويات “لا رجعة فيها”، أمرًا مشروعًا، وربما يصبح تحصيلاً حاصلاً في المرحلة المقبلة.
يقول العارفون إنّ توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة “ملزم”، وبالتالي فلا إمكانية للدعوة إلى انتخابات، ولو كانت واجبًا دستوريًا، من دونه، طالما أنّه موجود في سدّة السلطة وعلى رأس مسؤولياته، ما يعني أنّ “الورقة” التي يلعبها رئيس الجمهورية في هذا الإطار قد تكون قانونية ودستورية بالمُطلَق.
وإذا كان خصوم الرئيس يعتبرون أنّ ذلك ليس من حقه، لأنّه ينطوي على مخالفة دستورية، وأنّ عدم التوقيع يكون مبرَّرًا فقط في حال كان المرسوم مخالفًا، وهو ليس كذلك، طالما أنّه يحترم المهل المنصوص عليها في القانون، فإنّ آخرين يردّون بدحض نظرية المخالفة، طالما أنّ الرئيس يؤكد أنه جاهز للتوقيع على مرسوم انتخابات في أيار.
وبين هذا وذاك، ثمّة من يخشى على الانتخابات برمّتها، علمًا أنّ محبّذي “نظرية المؤامرة”، وحتى بعض رافضيها، لا يستبعدون نظرية “توزيع الأدوار” بين مختلف الأطراف، بغية الوصول إلى “الهدف المشترك” الذي يجمعهم، ألا وهو “نسف” العملية الانتخابية بالكامل، بعدما بات جليًا أنّها في التوقيت الحالي ليست في صالح أحد.
وخير دليل على ذلك، وفق ما يقول كثيرون، أنّ البلاد لم تدخل حتى الآن، قبل أشهر معدودة من الموعد المفترض للاستحقاق الموعود، جو الانتخابات بعد، في مفارقة مثيرة للريبة، فلا حملات ولا من يحزنون، بل إنّ بعض الأحزاب والقوى السياسية لم تقرّر حتى الآن ما إذا كانت ستخوض السباق، أم ستعزف عن المشاركة فيه، وفق ما يتداوله البعض إعلاميًا.
وثمّة “سيناريو” أكثر “سوداوية” بدأ البعض يتداول به، يتحدّث عن “نسف” الانتخابات النيابية، تمهيدًا لـ”تطيير” الانتخابات الرئاسية بعدها، وبالتالي “التمديد” لرئيس الجمهورية ميشال عون، الذي قال في تصريحاته الأخيرة إنّه “لن يسلّم إلى فراغ”، ما فتح باب “التكهّنات” على مصراعيه عن الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها الرئيس قبل انتهاء ولايته.
وقد وجدت هذه “الفرضية” صداها، رغم نفي “العونيّين” لكل التفسيرات “غير البريئة”، داعين إلى قراءة كلام رئيس الجمهورية في عمقه وجوهره، فهو لم يقُل إنّه يسعى للتمديد، لكنّه أكّد أنّه لن يسلّم البلاد إلى “الفراغ الكامل”، علمًا أنّ الرئيس كان واضحًا بحرصه على الرئاسة، التي لن تعود بعده كما كانت قبله، وفق ما قال عون نفسه.
قد يكون “الغوص” في “مقاصد” رئيس الجمهورية من كلامه “الرئاسي” مبكرًا لأوانه، لكن ثمّة من يرى “ترابطًا” بين كلّ هذه الأمور، لا سيما أنّ الانتخابات النيابية ستكون “البوابة” لكل الاستحقاقات المقبلة، فإما تشرّع الأبواب والنوافذ أمامها، وإما تقفلها وتسدّها بالمُطلَق، فتكون البلاد أمام مرحلة صعبة ومعقّدة.
وبالانتظار، لعلّ المطلوب من القوى السياسية القيام بالحدّ الأدنى من “تصريف الأعمال”، إن جاز التعبير، وقد يكون “تحرير” الحكومة من “القيود” التي لا شأن لها بها “أول الغيث”، لا سيما وأنّ التمسّك بمبدأ التعطيل لفرض الرأي لم يعد مجديًا، وقد “ينقلب” على المتمسّك به اليوم في الغد، وهنا بيت القصيد!.