“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
244،442 مسجلاً على قوائم الإنتخابات من المغتربين، يُعادل “وجع الرأس” الذي يصيب شخص ما فتتّبعه رغبةٌ في ضرب الرأس في الحائط من شدّة الألم! عملياً، لقد أوجعَ المغتربون السلطة، ما دفعها إلى التفكير في كيفية “فرطعة” تلك الأرقام، والسعي إلى عدم تحوّلها كتلةً ناخبة متراصة وذات قدرةٍ على التأثير من خلال صناديق الإقتراع.
منذ البداية، راهنت قوى التغيير النشطة تحت عنوان “البدائل” المدعومة من منظمات ودول خارجية، على الصوت الاغترابي ليشكل رافعة لها ويرسي نوعاً من التوازن مع الصوت الداخلي الغالب بنسبة كبيرة ناح التيارات والأحزاب التقليدية، مع الأخذ في الاعتبار دخول تعديل طفيف طرأ بعد 17 تشرين. إذاً نشأت قاعدةٌ مفادها: “المغتربون للثورة و المقيمون للحزب (الأحزاب)”.
في الواقع، لا وجود حتى الساعة لتقديرٍ واحد لدى السلطة حول حجم الخطر الذي تشكّله تلك الكتلة الناخبة بهذا الشكل الصريح الذي يحصل للمرة الأولى، وهذا عجزٌ رهيب لدى السلطة ودليلٌ على ارتكابها في التقدير. وللمرة الأولى تندفع الطبقة إلى التفكير بموجوداتها الرقمية وقيمتها في الصناديق إلى حدٍ بلغ “رهاب الإنتخابات” ببعض التياراتٍ، إلى تفعيل ماكيناتها الإنتخابية باكراً جداً. لكن المُتفق عليه يبقى، أن الجزء الأكبر من كتلة الـ244 ألفاً ستكون في مواجهة عقارب السلطة، وعلى الأرجح ستكون لها تداعيات على مستوى الحملات الإنتخابية وطبيعة الإستحقاق المقبل.
صحيحٌ أن المسجّلين عام 2018 بلغوا في القارات الست 92،810 شخصاً إقترعَ منهم ما يعادل النصف تقريباً، لكن الحالة الراهنة بتشعّباتها وظروفها مختلفة تماماً. وإذا كانت إدارة المعركة الماضية قد تمّت تحت شعارات مكافحة الفساد والنهوض بالدولة وترسيخ معادلاتها، فإن الدورة المقبلة ستكون شعاراتها على وزن إدخال تغيير على طبيعة النظام، وسيشكّل المعارضون للنظام حالةً من الإزعاج بالنسبة إلى السلطة. وتذهب مراكز الأبحاث في تقديراتها ضمن هذا المجال إلى احتمال أن يقترع ما يربو عن 80 بالمئة من المسجّلين عملاً بقاعدة الرغبة في إنجاز تغييرٍ ما على السلطة عبر صناديق الإقتراع، تأثراً بالحالة التي تكونت بعد 17 تشرين.
من هنا، يجدر احتساب المواقف بدقة. فمنظمات المجتمع المدني وتلك التي نشأت في أعقاب 17 تشرين راهنت وتراهن، على تلك الأصوات المسجّلة من أجل العبور نحو إنجاز تعديلٍ موضعي مؤثر ضمن دوائر انتخابية معينة، لعل المسيحية أبرزها. لذلك نراها أقلعت منذ مدّةٍ طويلة عن الشارع وتفرّغت إلى الداخل تحت شعار الإعدادات التنظيمية والتحضير للإستحقاق على صعيد بلورة التحالفات والتفاهمات بين تركيبتها. ولا ريب في أن الأزمة الحالية شكّلت عامل دفع مهمّ لدى تلك القوى المطروحة كبدائل، والتي استفادت منها على نحوٍ خاص في الإجهاز على السلطة القائمة في وصفها مسؤولة عما يجري، وطرح نفسها كبديل سياسي لديه القدرة على العبور في الدولة إلى مكان آمن. لذلك كان لا بدّ من أن تستمر الأزمة وترتفع على نحو ما نرى، والإنكفاء إلى الخلف دون أي تحرك.
ولا ريب أن اهتمام تلك المجموعات، شكّل علامةً فارقةً خلال الأيام والأسابيع الماضية بإدارة حملات التوعية ومخاطبة المغتربين وحثّهم على التسجيل. ولقد بان مدى اهتمام تلك المجموعات بأصوات الإغتراب، رغبةً منها في أن تشكّل كتلةً ناخبةً مؤثّرةً ذات دفع قوي ومتجانسة مع الكتلة التي تحوز عليها عملاً بمقتضيات مراكز الأبحاث في الداخل. بالتوازي، لم يكن حجم الأصوات أقلّ اهتماماً بالنسبة إلى قوى الخارج، الدافعة صوب تثبيت موعد الإنتخابات في الربيع المقبل (آذار أو أيار لا فرق). وإذا كان ثمة نيّة لدى أحدهم في تطيير الإنتخابات أو تأجيلها، فبعد ذلك الرقم أصبح الموضوع شبه مستحيل.
وتراهن قوى الخارج، على أن تشكّل الجولة المقبلة من الإنتخابات قاعدةً، ينشأ عبرها تغييرٌ على مستوى طبيعة و آلة الحكم ضمن الطبقة السياسية، وترسّخ قابلية التغيير في التركيبة، وهو جواب شافٍ لمن يسأل حول مستقبل النظام الذي يبدو أنه متّجه نحو الترشيد وإعادة الإنتاج ضمن ظروفٍ معينة، على قاعدة إنجاز التغييرات ضمن ذات التركيبة.
بالتأكيد، سيشكّل هذا الجو استنهاضاً لبواطن القلق بالنسبة إلى قوى السلطة، لذلك اندفعت مثلاً في أفريقيا، نحو تحفيز المغتربين هناك، على التسجيل بكميات لامست مثلاً في ساحل العاج، ما هو في فرنسا. ويتردّد أن الدولة الإفريقية التي تستوعب الجزء الأكبر من اللبنانيين بلغت المراكز الأولى من حيث التسجيل، بينما احتلّت الدول الأوروبية صدارة القارات يليها القارة الأميركية الشمالية ثم الجنوبية وصولاً إلى دول الخليج العربي، وهو ما يعطي صورة ًمصغّرة عن طريقة توزيع الصوت الأغترابي خلال المعركة المقبلة.
وفي الداخل اللبناني ثمة تهيّب للحظة، لردات الفعل التي قد تلجأ إليها السلطة في حال أدركت محدودية تأثيرها ضمن المسار العام. وفي هذا السياق تُعدّ وضعية الإنتخابات المقبلة تحت تأثير الطعن، موضوعةً على قائمة الرصد، وسط تنامي الخشية من تخاذل قوى معينة قد تتفق في لحظة ما على تطيير الإنتخابات أو إعادة “ركلجتها” على نحوٍ مخالف لرغبتها الأساسية، بذريعة الخلاف على قواعد اقتراع المغتربين: هل يجدر أن توزّع أصوات الاغتراب على الدوائر الإنتخابية الـ 15 أم تختار أن يتمّ حصرها ضمن حدود 6 مقاعد موزّعة على القارات، كما ينشد “التيار الوطني الحر”؟
هنا تحديداً تكمن الخشية إن قلبت السلطة نظرتها إلى القواعد في ضوء الـ244 ألف صوتاً، وعقدت الإتفاق بين أركانها المختلفة على طبيعة تقدير المصلحة من اقتراع المغتربين. وطالما أن المكر من شيم السلطة، فإذاً قد يُعقد الإتفاق على إعادة توزيع الإقتراع، رغبةً في تلاشي قوة الكتلة الناخبة على 6 مقاعد فقط وتحرير المقاعد الـ128 المتبقّية من مشهدٍ قاتم غير مضمون النتائج. بالنسبة إلى السلطة، خسارة 6 مقاعد مُضافة غير مُدرجة في الحسابات أفضل من تكبّد خسائر على مستوى خريطة الـ128 مقعداً!