لم تغب الدولة البريطانية يوماً، عن العمل والنفوذ في الساحة اللبنانية، بكافة الوسائل والميادين التي يمكنها التأثير عبرها، من أجل تحقيق مصالحها ومصالح الولايات المتحدة الامريكية في هذا البلد، وضمناً مصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي. فلبريطانيا أدوار في لبنان، منذ ما قبل تاريخ استقلاله عن الانتداب الفرنسي في العام 1943، والذي كان لها الدور الكبير فيه ايضاً، في إطار حربها على النفوذ مع الفرنسيين في المنطقة.
فخلال تلك المرحلة – وفق ما كشفته الوثائق التاريخية الفرنسية عن مرحلة الانتداب، والتي اكتشفها الباحث الإسرائيلي “مائير زامير” ونشرها في كتابه “الحرب السرية بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط”- كانت بريطانيا تسعى لتعزيز نفوذها في المنطقة، لضمان احتفاظها بدور دولي عالمي ينافس أمريكا والاتحاد السوفياتي، عبر احكام سيطرتها على الدول النفطية في العراق والخليج من جهة، وبلاد المشرق العربي (عبر الجهود الاستخباراتية) من جهة أخرى. فكان الهدف انتزاع لبنان وسوريا من قبضة الانتداب الفرنسي، عبر تحريض القوى السياسية في البلدين على تقديم طلبات الاستقلال، وإقامة علاقات استراتيجية مع بريطانيا. وتمت هذه الجهود بقيادة الجنرال “إدوارد سبيرز”، الذي نجح باستقطاب العديد من “رجالات الاستقلال”، الذي تم إثر افتعال أزمتين دستوريتين: في لبنان خلال العام 1943 وفي سوريا خلال العام 1946. ما أجبر الفرنسيين بموجبهما على منح الدولتين الاستقلال.
الدور البريطاني لا ينتهي
بناءً على ما تقدم، فإن الدور البريطاني، ظل موجوداً في كل المراحل التي مر بها لبنان. فإن غيابه على الصعيد السياسي في فترة من الفترات، بفعل تصدر النفوذ الأمريكي للمشهد، لا يعني غيابه عن النفوذ من أبواب أخرى، لا تقل خطورة عن الباب السياسي، بل وربما أخطر منه، من خلال النفوذ الثقافي والتعليمي.
فالبريطانيين كانوا من أوائل الدول الأجنبية، التي أرسلت وفودها “التبشيرية”، التي افتتحت المدارس والمعاهد في المشرق وخصوصاً لبنان، مثلما حصل مع السيدة بوين طومسون. وكان لهذه المدارس والمعاهد، الدور الأساسي في غزو البلد ثقافياً وبأسلوب ناعم، مكنها من الاستفادة والسيطرة عبر العديد من خريجي هذه المؤسسات.
واستمرت هذه الجهود، وصولاً حتى يومنا هذا حيث تم مأسستها، لتكون ضمن ما يسمى بالمجلس الثقافي البريطاني التابع للقنصلية. وأبرز الأمثلة على مدى نفوذ هذا المجلس في القطاع التعليمي اللبناني:
_ يُعدّ لبنان حالياً من أكثر دول المنطقة، لجهة تطبيق البرنامج “ربط الصفوف” الذي أبرم 54 شراكة مع مدارس في بريطانيا، بمشاركة ما يزيد على 3500 أستاذ.
_ كما يمتلك المركز علاقات واسعة مع شركاء وجهات لتنفيذ مشاريعه مثل:
1)الشركات الكبرى والبنوك التي تساعده في تمويل البرامج.
2)وزارة التربية والتعليم، والمركز التربوي للبحوث والانماء.
3)الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في لبنان: مثل الجامعة اللبنانية – كلية التربية، الجامعة الامريكية في بيروت، الجامعة اللبنانية الامريكية، جامعة البلمند، الجامعة الامريكية للتكنولوجيا، جامعة القديس يوسف، الجامعة اللبنانية الدولية، جامعة فينيسيا، معهد العزم، الجامعة الامريكية للعلوم والتكنولوجيا…
4)الجمعيات الوطنية لمعلمي اللغة، والشبكات المهنية.
5)قطاع تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس العامة والخاصة، بما فيه الناشرين والاستشاريين.
6)وسائل الإعلام: محطات تلفزيونية وإذاعة ومطبوعات ومواقع الكترونية.
7)منظمات وجمعيات غير حكومية ودور رعاية اجتماعية مثل: مؤسسة سمير قصير ومؤسسة الحريري.
8)أندية ثقافية وفنية ومسارح لبنانية مثل: مسرح دوار الشمس، اتحاد المراكز الثقافية اللبنانية، مدرسة الدمى العربية…
الغزو الثقافي الشامل: أشد ضراوة من ذلك العسكري أو السياسي
هذا الغزو الثقافي التعليمي الشامل لمؤسساتنا التعليمية والتربوية والفنية، لا يقل ضراوة عن ذاك العسكري، لأن نتائجه لا تتعلق بمعركة آنية، بل بحرب تستطيع تغيير جيل بكامله. ولعلى هذا الأمر هو الدافع الرئيسي من اهتمام المجلس الثقافي الدوري، بإعداد أبحاث تتمحور حول “الجيل اللبناني الجديد Next Generation Lebanon” (الذي ضم إليه مؤخراً الشعبين السوري والفلسطيني المقيمين في لبنان!!) لمعرفة آراء الشباب حول تطلعاتهم لمستقبل لبنان والمنطقة. وهذا إن دل على شيء، فعلى مدى اهتمام بريطانيا، بهذه النوع الناعم من الحروب وآثاره، من أجل تغيير المنظومة القيمية والثقافية، بما يخدم مصالحها والمصالح الامريكية والإسرائيلية في لبنان والمنطقة.
الكاتب: الخنادق