وارتكب الجيش السوداني والميليشيات الحليفة مجزرة جديدة يوم 17 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، سقط ضحيتها 15 متظاهراً، وهي الحصيلة الأعلى للاحتجاجات المتواصلة منذ الانقلاب على السلطة المدنية الشرعية بالبلاد في 25 الشهر الماضي.
كيف بإمكاننا أن نقرأ هذا العنف المفرط وتأثيره على المسار السياسي خلال الأسابيع والشهور المقبلة؟
النظرة الأولية الى العنف هنا، على ارتباط بضيق أفق العسكر بعد عزل رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وشن حملة اعتقالات واسعة بحق ناشطين واعلاميين وشخصيات سياسية.
أظهرت أحداث الأسابيع الماضية أن المدنيين ليسوا لُقمة سائغة، وأن القوى السياسية قادرة على حشد الشارع في مواجهة الجيش وقراراته، وهذا يعود غالباً الى تراكمات الحياة السياسية السودانية والمعارضة والعمل النقابي فيها، وحقيقة أن الناس اختبروا العسكر وفسادهم وقلة خبرتهم في إدارة الشأن العام والعلاقات مع العالم الخارجي. في المقابل، لا يتمتع الانقلاب العسكري بالدعم الخارجي الواضح والمطلوب، في حين يواصل الشارع السوداني الضغط عليه باتجاه إعادة الشراكة مع المدنيين في عملية انتقالية واضحة تشمل إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية ومن ضمنها ميليشيات الدعم السريع.
بكلام آخر، لجأ الجيش الى العنف لوقف التحدي الداخلي ووضع مكابح عليه، ريثما يتعامل مع المكون المدني والمجتمع الدولي. ذاك أن الوضع المثالي للجيش الآن يتمثل بموافقة حمدوك على العودة بشروط العسكر، أي القبول بتوازنات تميل للقوى المدنية الكرتونية الخاضعة لإرادة عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (المعروف بـ”حميدتي”). وهذا غير متاح حالياً، ولكن في حال حدوثه، بالإمكان أن يُساعد في احتواء الضغط الخارجي ومفاعيله الاقتصادية على البلاد.
لكن من جهة ثانية، يرسم العنف خطاً سياسياً واضحاً لا عودة عنه. عام 2019، ارتكبت القوات المسلحة، أكانت تنتمي للجيش أو الميليشيات المتحالفة معه، مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من حزيران (يونيو)، ما أودى بحياة مئة شخص وجرح مئات آخرين. بحسب التقارير الواردة حينها، رمى المرتكبون عشرات الجثث في النهر لإخفاء معالم الجريمة.
المهم أن المجزرة تحولت منذ ذلك الحين الى موضع سجال ومطالبات دائمة من المكون المدني، بهدف انجاز تحقيق شفاف، وهو سيُؤدي بطبيعة الحال الى ادانة الانقلابيين الحاليين الممسكين بسدة الحكم. وربما من هذه البوابة، يُمثل عنف الانقلابيين في السودان، محاولة من أحد الأطراف، الأرجح أنها ميليشيات الدعم السريع بقيادة حميدتي، حداً فاصلاً يمنع المساومة مع المكون المدني، وأيضاً يدفع الغرب الى الانتقال من مرحلة الضغط ومحاولة الدفع باتجاه صفقة سياسية تُعيد حمدوك للسلطة، إلى مرحلة فرض العقوبات.
حينها، تنتفي حاجة المكون العسكري الى المجتمع الدولي، ويصير العنف والقمع والتعذيب والاخفاء والمجموعات الاسلامية، هي أدوات وحيدة للسلطة السياسية، تماماً كالوضع الذي اعتادت عليه ميليشيا “الدعم السريع” ابان سنوات حرب دارفور، والجيش خلال عهد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير.
إلا أن هذه سياسات بلا أفق، لا بل الواضح من درس نهاية البشير أن طريقها مسدود. والحكم بقبضة حديدية غير دائم، إذ قد يخرج من صفوف النظام الجديد نفسه من يطيح برأسه وسط احتجاجات لا يبدو أنها ستنطفئ سريعاً.
لم ينفع حجب الانترنت عن الناس، واقفال شبكات الهواتف، في وقف الاحتجاجات، لا بل انها تواصلت، وزادت وتيرتها. وتعويل السلطات الانقلابية على العنف وسيلة وحيدة للبقاء، يكشف ورقة التوت مجدداً عن ثُلة لا تُنتج سوى المزيد من الضحايا والفقراء.