الأخبار- حوراء قبيسي
شهد شهر أيلول الماضي تصعيداً شعبياً غير مسبوق ضدّ السلطة الفلسطينية، رفضاً لفوضى السلاح في مدينة الخليل في الضفة الغربية المحتلّة، وهو ما استدعى حضور رئيس الحكومة محمد اشتية، شخصياً إلى المدينة، لترؤّس اجتماع مع قادة الأجهزة الأمنية ووجهاء العشائر في الـ25 من الشهر المذكور. وبعد يومين من ذلك، عقدت حكومة اشتية اجتماعاً أقرّت في خلاله حزمة مشاريع اقتصادية جديدة تصل ميزانيتها إلى 30 مليون دولار، فضلاً عن زيادة عدد أفراد الأمن «بما يحفظ سيادة القانون». ببساطة، أعادت السلطة إحياء المعادلة القديمة، المتمثّلة في محاولة تسكيت المواطنين بالدعم الاقتصادي، في مقابل غياب أيّ إجراءات جادّة وحقيقية لتحسين الأمن، على رغم خطورة الوضع في الخليل، والتي تجلّت في سلسلة حوادث متلاحقة، استمرّت إلى ما قبل يومين.
وافتُتحت تلك الحوادث في 21 أيلول الماضي، بقيام مسؤول حركة «فتح» في المدينة، عماد خرواط، بالتهديد بوضع حواجز مسلّحة على مداخلها لمنع أيّ مسؤول فلسطيني من الدخول، نتيجة إهمال السلطة للخليل وعجزها عن لجم التفلّت الأمني فيها. وتبعت ذلك مناشدةُ عميد «لجان الإصلاح»، عبد الوهاب غيث، مسؤولي السلطة وقف مسلسل العنف في المدينة، قبل أن ينضمّ إليه رئيس بلدية الخليل، تيسير أبو سنينة، بانتقاده تخصيص «عدد قليل من عناصر الشرطة» لهذه المنطقة، وصولاً إلى تسليم العشائر رسالة شديدة اللهجة لاشتية خلال زيارته الأخيرة، رفضاً لما تقوم به السلطة «من تغطية وحماية للمجرمين والقتلة». وفي 16 تشرين الأول، تَطوّر الأمر إلى اشتباكات مسلّحة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أدّت إلى إصابة مُحوّل الكهرباء وانقطاع التيار الكهربائي عن أجزاء واسعة من المنطقة. وسبق الحادثة المُشار إليها بيومين، تفجير محلّ تجاري في الخليل أيضاً، يعود إلى عائلة الجعبري.
الحلّ الصحيح
دائماً ما مثّلت الخليل أولوية في السياسة الإسرائيلية، لكنّ التكتيك الرئيس الذي اتُّبع فيها تَمثّل في العمل على ضرب الهُوية الوطنية الفلسطينية، بهدف تقويض أيّ أسس لنشوء حالة مقاومة هناك، وهو ما يصبّ في إطاره دعم نظام العشائر المترسّخ في المدينة. وفي هذا الإطار، يلفت أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في الجامعات الإسرائيلية، مردخاي كيدار، في مقال نشرته صحيفة «مكور ريشون» العبرية في 27 تشرين الأول 2020، إلى أن «شيوخ العشائر الفلسطينية يحظون بتقدير واحترام أكبر من الذي يكنّه الجمهور الفلسطيني للسلطة، وهو ما أوصلنا إلى الحلّ الصحيح». «حلٌّ» تلعب فيه السلطة دور المتواطئ، عبر تجنّب أجهزتها الأمنية الصدام مع العشائر، وسعيها إلى إبرامها اتفاقيات مبطنة مع بعض العائلات المتنفّذة، تضْمن للأخيرة نفوذاً حكومياً مقابل ولائها للسلطة.
على أن الاحتلال لم يكن ليغضّ الطرف عن قيام العشائر بتكديس ترسانة من الأسلحة الخفيفة لديها (كلاشينكوف وإم 16)، لولا أنه ضَمِن أن هذا السلاح لن يُوجَّه إليه، وسيجد سبيلاً آخر لاستخدامه كالتجارة ومراكمة النفوذ والثأر والاقتتال الداخلي (حتى في ذروة انتفاضة القدس ما بين عامَي 2015 و2016، لم تخْلُ الخليل من المشاجرات العشائرية التي استُخدمت فيها الأسلحة الرشّاشة المتوسطة). ذلك أنه مقيَّد، عملياً، بالقانون العشائري، وحامله مجرّد تابع لا يملك قراره المستقلّ في التصرّف به. وفي حال حدوث «خطأ فردي»، كإطلاق النار من سلاح العشيرة (الذي لم يشتره على نفقته) باتجاه جنود العدو، فإن الشخص يتحمّل وحده مسؤولية فعله، ولا يمكن لعشيرة مسلّحة ما أن تبارك عملية ولدها، لأن ذلك يعني اصطدامها مع السلطة والعدو على على حدّ سواء. أمّا إذا ظهرت بوادر تمرّد، كأنْ يقتل رجل من العائلة عسكرياً فلسطينياً، أو يبيع بندقية لمقاوم، أو ينخرط في عملية ضدّ العدو، فإن السلطة ستبادر إلى شنّ حملة ضدّ مَن تعتبره «خارجاً عن القانون» أو «عابثاً بأمن المنطقة».
السلاح الحلال
يجد السلاح طريقه إلى الخليل عبْر عمليات تهريب منظّمة تشرف عليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، سواءً من داخل الضفة، أو الأراضي المحتلة عام 1948، أو الأغوار (المنطقة الحدودية بين الضفة والأردن). وبحسب ما كشف مستشار رئيس الوزراء الفلسطيني، عبد الإله الأتيرة، في 10 تشرين الأول 2020، فإن «السلاح المهرَّب يأتي بشكل رئيس من إسرائيل، عبر عمليات تهريب منظّمة تشرف عليها المخابرات الإسرائيلية، وتحديداً في مناطق ب، وج». ووفقاً لمدير قسم التحقيق في جهاز الاستخبارات العسكرية، عبد الكريم وادي (10 شباط الماضي)، فإن 99% من هذه الأسلحة تُستخدم في جرائم القتل والثأر، فيما نسبة 1 % أو أقلّ تُستخدم للمقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذا السياق، يعتقد نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، حسن خريشة، أن «ظاهرة انتشار السلاح في الضفة نتيجة لتجارة بين شخصيات نافذة في السلطة وتجار السلاح الذين يهرّبونه من إسرائيل، وتكديس السلاح بالشكل الذي نراه الآن في المخيمات الفلسطينية، مرتبط بحسابات داخلية والتحضير لوراثة الرئيس الحالي محمود عباس».
وبحُكم النفَس الطويل الذي تتميّز به الكيانات العشائرية، وقدرتها على مقاومة عوامل التعرية، على عكس الأحزاب السياسية والمؤسسات التي تتأثّر بعوامل خارجية وداخلية، ومع تجذّر الإمارات العشائرية، ازدادت الشهية على السلاح، لتُسجّل الخليل أعلى مستويات في أسعاره، ولتنشأ شبكات فلسطينية – إسرائيلية لتهريبه، كشفت عن إحداها وحدة الاستخبارات الإسرائيلية في 16 آذار 2020، حيث اعتُقل 21 شخصاً من الجنود الإسرائيليين النظاميين والمسرّحين وأيضاً المدنيين، لتعاونهم في تجارة الذخيرة والأسلحة النارية التي وصلت في نهاية المطاف إلى الضفة. وقبلها، أُحبطت محاولة تهريب 4000 ذخيرة من فئة 5.56 ملم، على حاجز «ميتار» (معبر وادي الخليل) في 19 كانون الأول 2019. كذلك، وجد الاحتلال في الخليل مكاناً للتخلّص من بنادق «تافور» ذات الصنع الإسرائيلي، بعد قرار سحبها من الجيش عام 2011 على خلفية انفجار عدد منها خلال عمليات التدريب.
يد العشائر على الزناد
افتُتح شهر تشرين الأوّل، باشتباكات مسلّحة في الخليل مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أدّت إلى إصابة محوّل الكهرباء وانقطاع التيار الكهربائي عن أجزاء واسعة في المنطقة. وجلب الشهر التالي، تشرين الثاني، معه السيناريو الأصعب على أهالي الخليل، بتجدُّد الاقتتال العشائري بين آل الجعبري وآل العويوي بعد ثلاثة أشهر فقط من «العطوة» العشائرية التي جرى الاتفاق عليها لمدة عام. وكان التوتر قد بدأ بمنشورات تحريضيّة وشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي بين العائلتَين، لكن المشهد سرعان ما انزلق إلى الشارع في الـ 13 من الجاري. وعلى إثر مشادة كلامية بين شابَّين، الأوّل من آل العويوي والثاني من آل الجعبري، أقدم الأخير على طعن الأوّل بسكين، لتتدحرج الأحداث بإطلاق نار وافتعال حرائق طالت 20 منشأة بين منازل ومحالّ تجارية. وفي محاولة لتجنّب سيناريو حزيران الماضي، استجاب الطرفان لرجل الإصلاح، الشيخ داود الزير، بتوقيع صكّ صلح في الـ 14 من الشهر الجاري، إلّا أن مصيره، كما «العطوة»، لم يصمد طويلاً، حتى عادت الاشتباكات المسلحة بين العائلتين.
(الأخبار)