مطلع العام 2020 وبحجة الظروف الاستثنائية التي كان يمر بها البلد، أعلم حاكم المصرف المركزي جمعية المصارف بالتوجه لتعليق العمل بـ”المعيار الدولي للتقارير المالية” المعروف بـ IFRS9. وأن مشروعاً بهذا الإطار أعدته لجنة الرقابة على المصارف، ضامناً لهم أخذه من قبل مراقبي الحسابات في الاعتبار.
إستمرار تجاوز المعايير
منذ ذاك الوقت ومختلف المؤسسات المالية والتجارية عموماً، والمصرفية خصوصاً، تتخطى أحد أهم شروط معاهدة “بازل” بضرورة تثقيل المخاطر، وأخذ المؤونات بالتوازي مع ارتفاع مخاطر الاقراض. إلا أنه ما كان يمكن التغاضي عنه موقتاً في بداية الأزمة بسبب ظروف الجائحة وتدنى مستويات الديون المتعثرة، أصبح فاضحاً بعد تخلف الدولة عن سداد “اليوروبوندز” في آذار 2020، وارتفاع نسب الديون المعدومة بشكل كبير مع تفاقم الأزمة. وعلى الرغم من ذلك “استمر العمل بهذه الفتوى من المركزي لتخفيف عبء أخذ المؤونات المناسبة عن الديون المعدومة أو المشكوك بتحصيلها، كما ينص المعيار IFRS9. ذلك أن تطبيق هذا المعيار بحرفيته يؤدي إلى إفلاس المصارف”، يقول عضو المكتب التنفيذي للجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين نديم ضاهر، “مع العلم أن هذا المعيار لا ينطبق فقط على المصارف إنما على بقية الشركات، خصوصاً تلك التي تحمل أرصدة محجوزة في المصارف بالليرة والدولار. وهناك مخاطر في ميزانيتها يجب تقييمه على أساس هذا المعيار، طبقاً لما يعرف بمخاطر الخسائر المتوقعة بـ expected credit loss”.
يفلس المصارف
تغيير النسب المعمول بها، أو الواجب تطبيقها في المعيار IFRS9 يعني وكأن المؤسسات لا تطبقه نهائياً”، بحسب ضاهر، و”أن الميزانيات الصادرة عنها غير موثوقة من قبل الغير”. فهذا المعيار الذي بدأ تطبيقه في العام 2018 مكان المعيار 39IAF، نص على وجوب أخذ مؤونات على مخاطر تعثر الزبائن عن الدفع، حتى ولو لم يكن هناك من شبهات. وهذه المخاطر تحتسب على أساس تقييم وكالات التصنيف الائتماني كـ (موديز، ستاندرد آند بورز، وفيتش…) للبلد والبنوك بشكل خاص، وبناء على معادلة محاسبية”. وعليه فان تقييم لبنان وبنوكه على درجة F تتطلب أخذ مؤونات كبيرة لا قدرة للمصارف على تحملها، وهي ستصيبها بالافلاس في حال تطبيق المعيار كما هو. الأمر الذي دفع مصرف لبنان إلى الاستنسابية في تطبيقه على الطريقة اللبنانية.
تجاوز IFSR29
الأمور لم تقف على تجاوز المعيار التاسع، إنما تم تعليق العمل أيضاً بالمعيار IFRS 29 المتعلق بالتضخم المفرط. فهذا المعيار ينص على وضع مؤشر يقوم على مضاعفة الإيرادات في الميزانيات بكل ما يتعلق بالنشاطات التي تدخل فيها السيولة، بعيداً من تطبيقه على رأس المال أو الخسائر”، بحسب ضاهر، “بمعنى أن الشركات، ومنها المصرفية، التي تسجل عائداتها على أساس سعر الصرف الرسمي لليرة مقابل الدولار، أي 1500 ليرة عليها مضاعفتها. ولكن حتى مع مضاعفتها يبقى الرقم أقل بكثير من سعر السوق. ومن الجهة الاخرى فان مضاعفة الايرادات على أساس سعر صرف السوق يجعل منها أعلى بكثير من سعر السوق وما يطلبه المؤشر للحفاظ على ميزانيات المؤسسات. وفي الحالتين هناك صعوبة بالغة في تطبيق هذا المعيار كما حصل في الارجنتين على سبيل المثال في العام 2014 “طالما لا يوجد سعر موحد لسعر الصرف”، من وجهة نظر ضاهر، “ففي لبنان هناك ما لا يقل عن 8 اسعار صرف (1500، و3900 و12 ألفاً، وسعر منصة صيرفة، وسعر صرف السوق الموازية… هذا فضلاً عن أسعار صرف مخصصة للدواء واستيراد المحروقات ودعم المواد الاولية للصناعة الدوائية المحلية).
تعوزها الشفافية
“محاولات تعليق اعتماد المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS) انتقلت إلى الغرف السوداء”، يقول رئيس مجلس إدارة الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية “لافساد” د. مصباح مجذوب، “الأمر الذي لا يضرب المصداقية بالبلد ومؤسساته فحسب إنما يؤدي إلى إحجام المستثمرين على توظيف أموالهم في أي من المشاريع المقترحة. فهذه المعايير ليست باقة يمكننا انتقاء منها ما نشتهي، أو ما يتلاءم مع هندساتنا المالية… إنما تأتي حزمة واحدة. حيث ينص المعيار الأول فيها IS1 على أن تطبق كاملة أو لا تطبق”. وعليه لا يجوز الانتقائية بالمعايير وتطبيقها استنسابياً على الطريقة اللبنانية”، برأي مجذوب. “أما إذا قررنا عدم الالتزام بهذه المعايير، فهذا يعني أن ميزانيات المؤسسات العامة والخاصة تنقصها الشفافية والمصداقية ولا يمكن لأي مستثمر أن يتشارك مع المؤسسات اللبنانية أو يستثمر في ربوعه،طالما أن محاسبتنا لا تعمل وفقاً للمعايير العالمية، إنما وفقاً للمعايير المحلية”.
تحسين الميزانيات دفترياً
“عدا عن كونها تضرب الثقة بالبلد والمؤسسات، فانه لا قدرة ولا امكانيات ولا وقت ولا خبرة للبنان لتجاوز المعايير العالمية وتحديد معايير خاصة به”، من وجهة نظر مجذوب، و”هناك خطورة على مفاقمة تدهور الوضع الاقتصادي في حال تجاوز المعايير. إذ إن عدم أخذ المصارف والمؤسسات المالية المؤونات المطلوبة يعني تحسين وضعهم الدفتري فقط والدخول بهندسات محسابية جدية بميزانيات لا تعكس الوضع الفعلي للمؤسسات، والوضع المأسوي الموجود في البلد. وبالنتيجة نكون نجمّل المؤسسات على حساب المودعين والاقتصاد وقدرة البلد على النهوض من أزمته والاستمرار”.
عدم اعتماد المعاير الدولية في المحاسبة هو سقوط جديد للبلد والدولة في فخ “طلاء” ميزانيات المؤسسات المهترئة بـ”ألوان” الربح الزاهية، فيما “سوس” الخسائر ينخرها من الداخل ويهدد بسقوطها على رؤوس من فيها.