يقول يمنيون من الجنوب إنهم يخشون تكرار تجربة أفغانستان عندهم. ويشيرون إلى حركة القوات العسكرية السعودية والإماراتية في كلّ المناطق التي تخضع لسلطة التحالف المعادي لليمن. وهم يراقبون كيف أن السعودية أخلت خلال الأسابيع الماضية معظم المعسكرات التي كانت موجودة فيها في محافظات الجنوب، وخصوصاً في محافظة المهرة، واستمرار وجود عدد قليل من الجنود في مركزها في الغيضة، وإبقاء مجموعة من الضباط يجولون على نحو 27 معسكراً توجد فيها قوات من المقاتلين الجنوبيين الانفصاليين. وفي الموازاة، صار نادراً العثور على قوات إماراتية في الكثير من المناطق الجنوبية، بالرغم من أن أبو ظبي تخشى أكثر ما تخشاه سقوط المهرة بيد “أنصار الله”، إلا أنها اهتمّت بالمناطق الجنوبية الساحلية، وخصوصاً عدن والغرب باتجاه باب المندب، إضافة إلى بعض الجزر. لكن القوات الإماراتية سبق أن باشرت عملية إخلاء واسعة لقوّاتها بعد تلقّيها سلسلة من الضربات العسكرية التي تَبيّن للإماراتيين أنها ضربات تستند إلى عمل استخباري دقيق.
المشكلة الآن، لم تَعُد تخصّ ما يجري في مأرب. الكلّ، من دون استثناء، من أبناء البلد ومن الخارج يتصرّفون على أن المدينة سقطت. وما يجري عملياً هذه الأيام هو إدارة تفاوض بين صنعاء وعدد من القبائل من أبناء مديرية الوادي الملاصقة لمأرب من جهة الجنوب – الشرقي، بالإضافة إلى المدينة نفسها، وسط حركة نزوح واسعة لكلّ “الغرباء” الذين باتوا يشعرون بأنهم غير مرحَّب بهم من قِبَل أبناء المدينة، حيث النقاشات تُركّز على خيار وحيد: تجنيب المدينة الدماء والدمار، وتكرار تجربة الحزم عاصمة الجوف، التي وافقت القبائل فيها على تسوية انتهت إلى تسليمها لقيادة صنعاء من دون معارك. لكن الجميع، بمن فيهم القبائل نفسها، يعرفون أن مجريات العملية العسكرية مستمرّة من جانب “أنصار الله”، وقد تمكّن الجيش و”اللجان الشعبية” من التقدّم أكثر نحو مناطق ملاصقة للمدينة. وفي حال عدم التوصّل إلى اتفاق سريع، فإن القرار عند قوات صنعاء هو اقتحام المدينة مهما كانت الكلفة، مع الإشارة إلى أن القبائل المقاتلة استسلمت، وعلى رأسها قبيلة بني مراد، بينما لا يُعرف عن الأشراف في مديرية الوادي أو أبناء عبيدة في مأرب بأس القتال، بل التجارة والعمل في التهريب والسيطرة على مناطق غنية، وهم أقرب إلى تسوية مع “أنصار الله” حفاظاً على ما تَبقّى لهم.
السعوديون دخلوا مرحلة جديدة من التعب والإحباط. كل القوات والقبائل التي عملوا معها وعملت معهم خلال الأشهر الستة الماضية لم تُقدّم أيّ علاج لوقف هجوم “أنصار الله”. حتى عندما نجح البريطانيون في تعديل خطّة القتال بأن افتعلوا مشكلات من جهة شبوة والضالع، كانت النتيجة أن “أنصار الله” خفّفت من حدةّ هجومها على مأرب ووجّهت قواتها صوب الجنوب، وحقّقت تقدّماً تجاوز ما كان عليه الوضع سابقاً، بل نجحت، لأول مرّة منذ سنوات، في العودة إلى مناطق جنوبية، ولو عبر تسوية مع القبائل المحلية هناك. لكن هذه العملية أتاحت لـ”أنصار الله” محاصرة كلّ المعابر الجنوبية والشرقية ــــ الجنوبية التي تقود نحو مأرب، ما جعل السعوديين وكلّ القوات الجنوبية بحاجة إلى رحلة طويلة تقودهم من حضرموت نحو المدينة المحاصَرة. عملياً، لم يَعُد هناك سوى منفذ واحد، وإذا ما قرّرت “أنصار الله” الدخول في المواجهة الشاملة لاستعادة المدينة، فسوف يُقفَل هذا المنفذ. ومشكلة السعودية هنا، أن الدعم الإضافي الذي حصلت عليه من الأميركيين لم ينفع. فلا سَرب طائرات الـ”أف 16″ الذي استُقدم على عجل، نجح في صدّ الهجمات البرّية، ولا شبكة طائرات الاستطلاع التي نُشرت على مدار الساعة نجحت في وقف الضربات العسكرية ذات البعد الأمني، ولا كلّ القصف العشوائي حال دون تقدّم القوات. بالنتيجة، انتهى الجميع إلى خلاصة بأن مأرب سقطت… فماذا عن القادم؟

من الجهة الشرقية، يخشى السعوديون من لجوء “أنصار الله” إلى عملية عسكرية واسعة تتيح لها التقدّم للسيطرة على الجزء الشمالي من حضرموت. وهي معركة قد تقود الحركة صوب معبر الوديعة، حيث سيتمّ إقفال آخر معابر السعودية نحو اليمن، علماً بأن “أنصار الله” تقول علناً إنها مهتمّة أوّلاً بالوصول إلى حقول صافر التي تَبعد أقلّ من ستين كيلومتراً عن مأرب المدينة، وهي ستصل إليها ولو تطلّب الأمر معركة عسكرية. وعندما هدّد السعوديون بأنهم سيضربون منشأة صافر ومصادر إنتاج الطاقة فيها، جاء التهديد المباشر من “أنصار الله”، بأن ضرب صافر يعني أن كلّ موانئ وحقول ومصافي النفط في السعودية ستكون هدفاً مفتوحاً على مدار الساعة، وقد لمس العسكريون الغربيون الذين يساعدون السعودية استعدادات عملانية عند قوات صنعاء لشنّ عملية جوية مفتوحة ستجعل من ضربة “أرامكو” مجرّد مزحة… مع الإشارة إلى بعض الأصوات الجنوبية التي ارتفعت احتجاجاً وخشية من تدهور أكبر في حال ضُربت حقول صافر، وخصوصاً أن الريال في الجنوب انهار بنسبة الضّعف عن الشمال، ولم يَعُد لدى الجنوبيين موارد غير ما يصلهم من السعودية والتي يبدو أنها قلّصت نفقاتها.
لكن النقاش لا يتوقف عند هذا الجانب. إذ علم السعوديون، كما علمت كلّ محطات التنصّت العسكرية والأمنية التي تعمل في البحر الأحمر وفوق ومِن حول اليمن، بأن قيادة “أنصار الله” وجّهت غرفة العمليات لإعداد خطة سريعة تهدف إلى استعادة باب المندب، مباشرة بعد الانتهاء من معركة مأرب. وجرت اتصالات على أكثر من صعيد، أظهرت أن الحركة تعمل على تجهيز قوات خاصة تتولّى النزول من الجبال المحيطة بالحديدة، وصولاً إلى المخا وباب المندب، وأن العملية العسكرية على قساوتها سوف تكون حتمية، ولدى “أنصار الله” من الخطط والإمكانات ما يجعل النتيجة محسومة مسبقاً. وعندما يصبح الحديث عن سيطرة قوات صنعاء على باب المندب، يكون هناك كلام آخر.
في هذه النقطة، بدأت الهواتف ترنّ في كلّ مكان. وبدأت الطائرات تنقل الوفود سرّاً وعلناً بين العواصم المعنيّة. بادر المصريون إلى اتصالات شملت عواصم عدّة، من بيروت إلى طهران إلى صنعاء نفسها، وسعت القاهرة إلى ترتيب اجتماع لديها مع مسؤول رفيع من حكومة صنعاء، علماً بأن الأخيرة سبق أن أوفدت نائب وزير الخارجية فيها، حسين العزي، إلى الأردن لإدارة مباحثات مع الأردنيين وغيرهم. ويبدو أن المصريين يركّزون على ضرورة عدم توسيع دائرة المواجهات. صحيح أن الإعلام السعودي والإماراتي روّج لفكرة أن مصر هدّدت “أنصار الله” بأن الإمساك بباب المندب سوف يجعل القاهرة تتدخّل، لكن هذا الكلام لم يُقَل في الاجتماعات، بل ركّز المصريون في كلّ اتصالاتهم على أنهم يريدون وقف الحرب، ولو أنهم لا يريدون إغضاب السعودية. لكن “أنصار الله” كانت شديدة الوضوح بأن لا نقاش حول الوضع في مأرب، وأن الأمر حُسم ولا عودة عنه تحت أيّ ظرف، وأن البحث في المراحل التالية أساسه خطوة علنية وواضحة وحاسمة تصدر عن السعودية، ومعها الإمارات وأميركا، وتقول: لقد أوقفنا الحرب وسنرفع الحصار فوراً عن كلّ اليمن… وقبل ذلك، لا تجد “أنصار الله” من داعٍ لأيّ بحث.
أضف إلى ذلك، ما يتعلّق بكون المعنيّين بأحوال البحر الأحمر، وعلى رأسهم إسرائيل وأميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والإمارات، يعرفون أن بمقدور “أنصار الله” تعطيل الملاحة بصورة كاملة، من دون الحاجة إلى إرسال مقاتل واحد إلى سواحله. وتعرف هذه العواصم، أيضاً، أن الحركة جرّبت صواريخ أرض ــــ بحر، بمَديات تتيح لها ضرب أيّ هدف يتحرّك في البحر الأحمر، عدا عن أن بمقدورها إغراق الممرّ التجاري العالمي بكمّية من الألغام البحرية التي تحتاج جيوشاً وسنوات لإزالتها. لكن صنعاء لا ترغب بذلك، وفي الوقت نفسه لا تقبل أقلّ من استعادة السيطرة والإمساك بكلّ ما يتعلّق بباب المندب. وهو أمر يعرفه المصريون والآخرون أيضاً.
ومع أن إسرائيل تبدو الأكثر قلقاً من وصول “أنصار الله” إلى باب المندب، والإطلالة على كلّ حركة البحر الأحمر من جهة الغرب، وعلى بحر العرب من جهة الجنوب، فإن جزءاً من الأطراف الموجودة على الأرض هناك يخضع لوصاية الإمارات، وفي مقدّمه القوات التي يقودها طارق صالح من بقايا حزب “المؤتمر”، فيما أطراف أخرى تتصل بحزب “الإصلاح” الذي تَمزّق في هذه الحرب، ويبدو أنه في آخر أيامه بعد معارك مأرب، بالإضافة إلى مجموعة “العمالقة” السلفية التي تمثّل القوّة العسكرية الأبرز في تلك المنطقة. لكن للإمارات حساباتها أيضاً.

سارع الإماراتيون، سرّاً وعلناً، إلى بدء التفاوض. قصدوا طهران وغيرها من العواصم، وطلبوا من المصريين التوسّط لدى مَن يقدر على التأثير على “أنصار الله”. وهم أثاروا الأمر مع السوريين أيضاً، وإن كانوا يعلمون أن دمشق أجابت الرياض عندما طلبت التوسّط من أجل مأرب مقابل دعم الإعمار في سوريا، بأن لا صلة بين الملفَّين، وأن التسوية في اليمن تتطلّب توجّه الجميع نحو صنعاء فقط. لكن قلق أبو ظبي يزداد يوماً بعد يوم، جرّاء ما يصلها من الأخبار عن مأرب. ولدى الإمارات خشية كبيرة من أن تلجأ قيادة “أنصار الله” إلى إقرار خطّة للتقدّم صوب المهرة. والطريق إلى هذه المحافظة مفتوحة، ولا وجود لسكّان فيها، والنقاط العسكرية فيها محدودة للغاية، بينما يمكن لِمَن يصل إليها أن يكون على تخوم سلطنة عُمان، وعلى بعد عشرات الكيلومترات من الإمارات. لكن تهديداً واضحاً سمعه الإماراتيون قبل فترة وجيزة، وجاء على لسان المتحدّث العسكري لـ”أنصار الله”، العميد يحيى السريع، الذي قال: “لدينا قائمة تضمّ عشرات المواقع في الإمارات كأهداف محتملة للهجمات”، وأضاف: “للنظام الإماراتي… عملية واحدة فقط ستكلّفك كثيراً، ونحن نعلن لأول مرة أن لدينا عشرات الأهداف ضمن بنك أهدافنا في الإمارات، منها في أبو ظبي ودبي، وقد تتعرّض للاستهداف في لحظة”.
تعرف أبو ظبي ماذا تقصد “أنصار الله”. صحيح أن قيادة الحركة لا تريد توسيع دائرة المواجهات في الإقليم، لكن حصل في ليلة مقمرة قبل بضعة شهور أن جاب سرب من المسيّرات اليمنية السماء الإماراتية ووصل إلى أبو ظبي ودبي، وعاد من دون أن تكتشفه وسائط الدفاع الجوي الإماراتي. لكن “أنصار الله” تعمّدت، وقبل مغادرة السرب للأجواء الإماراتية بقليل، أن يظهر على شاشات الرادار، وكانت الرسالة واضحة. والذي حصل بعدها، أن بادرت الإمارات إلى اتصالات سرّية مع الحركة من خلال إيران وآخرين، وقالت إنها لا تقدر على التحاور مباشرة مع صنعاء خشية غضب السعودية، لكنها تريد وقف الحرب. ثمّ تبعت ذلك اتصالات خلال الأسبوعين الماضيين، استخدمت فيها الإمارات قيادات من حزب “المؤتمر” موجودة في صنعاء نفسها، ليحصل قبل عشرة أيام، أن أبلغت الإمارات “أنصار الله” رسمياً بأنها ستخلي الحديدة قريباً جدّاً، وسوف تلزم القوات الجنوبية الحليفة لها بالعودة إلى المخا، وتسليم المدينة من دون قتال، وهو الذي حصل خلال اليومين الماضيين، ومن دون إشعار أحد بالأمر، بمن فيهم الموفدون الدوليون الذين يتولّون المفاوضات. حتى الجنوبيون أنفسهم علموا بالأمر في ساعاته الأخيرة، ووجدوا أنفسهم في حالة إرباك، واضطروا إلى الخروج على عجل. لكن أبو ظبي علمت بطرق مباشرة أن ما هو مطلوب منها يتجاوز هذه الخطوات إلى الخروج نهائياً من كلّ اليمن، ووقف كلّ تعاون مع إسرائيل في البحر الأحمر أو بحر العرب أو الجزر، وأكثر من ذلك، أن تتعهّد الإمارات، كما السعودية ودول خليجية أخرى، بدفع التعويضات الكافية لإعادة إعمار ما دمّرته حربها على اليمن، ويبدو أن هذا البند سيكون أساسياً من الآن فصاعداً.
عملياً، تريد الإمارات من هذه الخطوة محاولة إقناع “أنصار الله” بتجميد خطّة الهجوم على باب المندب، لكن هذا الأمر غير محسوم، وهو ما يجعل القوات الجنوبية، ولا سيما قوات “العمالقة” أو قوات طارق صالح، تتصرّف على أساس أن المواجهة قادمة لا محالة، إلّا إذا نضجت تسوية سياسية كبيرة، علماً بأنها تدرك أن عودتها إلى المناطق الجنوبية الأخرى ستكون مدخلاً لمواجهات جديدة مع جماعة السعودية (قوات عبد ربه منصور هادي)، التي لا يبدو أنه سيبقى لها أثر بعد بضعة أسابيع حتى في الجنوب نفسه.
يدخل اليمن في مرحلة جديدة من المواجهة الهادفة إلى الإجهاز على العدوان السعودي ــــ الإماراتي ــــ الأميركي عليه، وتشير كلّ الوقائع الميدانية والسياسية إلى استحالة تعديل ميزان القوى، حتى ولو تَقرّر دخول مباشر للقوات الأميركية وحتى الإسرائيلية في الحرب، كما ترغب السعودية، بل إن الجميع يشعرون بأن كلّ المنطقة ستكون أمام واقع جديد خلال المدّة الفاصلة عن نهاية السنة. وعلى هذا المقياس، يُفترض باللبنانيين، سواء كانوا من أنصار السعودية أو من خصوم المقاومة، أن يفهموا سبب الغضب الذي يسيطر على آل سعود. وعلى هؤلاء إدراك أن الرياض لم تَعُد تجد مساحة أو ساحة غير لبنان لاختلاق أوراق للتفاوض عليها مع الطرف الآخر. لكن المشكلة أن السعوديين لا يَعرفون بعد أن عدم انصياعهم للنتائج العملانية، وإعلان وقف الحرب ورفع الحصار ودفع التعويضات لإعادة إعمار اليمن، سوف يُبقي الباب مفتوحاً أمام جولات جديدة من المواجهات الميدانية التي ستتركّز هذه المرّة في قلب الأراضي السعودية.