الكاتب : عبدالله قمح
استوى موقف وتقدير “حزب الله” حيال ملف الترسيم البحري مع العدو الإسرائيلي على نمطٍ جديد، وهذا إنما يدلّ على تدخلات حصلت لتعديل موقفه أو إسداء النصيحة إليه أو تقديم أوراق ذات منفعة عامة، أو لنقل “إخراجه” من “المنطقة الرمادية” –إن صحّ التعبير- التي اشتمل عليها موقفه من الملف، أي الملف الذي أوكل ضمن “المسار الشيعي الداخلي” إلى عين التينة.
قبل مدّة وحين كان يُسأل الحزب عبر مسؤوليه عن موقفه من موضوع الترسيم، كان يفضّل عدم الإجابة، ليس لأن الموضوع لا يعنيه، بل لأن الدولة لم تقرّر بعض موقفها الرسمي من قضية الحدود. وكمثل هذه الحالة، الحزب ليس زاحفاً أو متشردقاً إلى هذه الدرجة، كي يطرح وجهة نظر يُمكن أن يستخدمها خصومه ضده، باتجاه الإيحاء بأن الحزب قد يكون “يزرع موقفاً” ليتمّ حصاده لاحقاً.
وكان يظهر جلياً، أن الحزب يترك الملف بتفاصيله إلى عين التينة، والضاحية عادةً شديدة الثقة بدور عين التينة وما تمثله، إلى حدود أنه بات منغمساً إلى أبعد حدود بموقف المرجعية الشيعية الثانية إلى مستوى بدا أن مسؤولي الحزب يرددون المعزوفة ذاتها حيال الموقف من الملف دون تمايز.
ورغم حساسية الموضوع، كان كثرٌ من المتابعين لهذا الملف، يلفتون عناية “حزب الله” إلى كثير من التعقيدات والتفاصيل “الأفخاخ” التي تتموضع ضمن الملف. وكانوا من موقع الحرص طبعاً، يطرحون عليه مقاربة الموضوع من زاوية إطلاعه هو شخصياً وليس إطلاع غيره، من أجل البناء على استنتاج ما و الخروج من شرنقة بعض الحلفاء الذين أخذوا “يركّبون الديل” مع الأميركي على قاعدة “أن حزب الله في الجيبة”.
وبعد جهدٍ جهيد، مال الحزب إلى إنتاج قراءته الخاصة حيال الملف، واكتشف مثلاً أن دخول قيادة الجيش اللبناني على الخط عبر الوفد العسكري التقني المفاوض مثلت “صمام أمان” في الملف، من خلال دورها في حفظ حقوق لبنان حين طرحت الخط المباشر رقم 29 كسقف لحدود لبنان الشرعية، لذلك انبرى “حزب الله” من خلال قنواته صوب الدفع في سبيل توكيد هذا الخط واعتباره خطاً حدودياً، من دون أن يقدم الحزب أي التزام خطي أو شفهي بذلك، على اعتبار أن أي اعتراف أو تصرّف منه سيلزمه بالتبنّي الكلي، وعليه سيرفض لاحقاً اي تراجع حتى ولو سجّلته الدولة. وبناءً على هذا التقدير، شدد على موقف الجيش اللبناني، ومن جهة أخرى أخذ موقفه من باقي الخطوط المطروحة يتصاعد تدريجياً، إلى أن بلغ مستواه أن يعلن الأمين العام السيد حسن نصرالله قبل يومين على هامش احتفالية “يوم الشهيد” أنهم (أي الأميركيين) يضحكون على لبنان بتسويةٍ ما يسمى خط “هوف”، يعني أقلّ من الحد الأدنى الذي لا نقاش فيه بين اللبنانيين”، ما يعني أن الحزب بات يرفض أي حلّ على قاعدة 860 كيلو متر بحري مربع.
يمثّل هذا الموقف عملياً ذروة انقلاب الحزب تجاه التموضع في خانة محددة في الملف، ويعني أنه خرج كلياً من “رباط الحلفاء وشرنقتهم” وبات يتماهى مع ظروفٍ موضوعية أملتها التطورات الحاصلة والتي أسفرت في النتيجة عن إنتاج قراءة مختلفة.
تأسيساً على ذلك، بات يميل الحزب إلى وضوحٍ أكثر على صعيد ملف الترسيم. وبعد شهور من الصمت بات حراكه أكثر وضوحاً ويملؤه الضجيج، وهو ما حفّز المعنيين بملف الترسيم سيّما على خط الوفد العسكري التقني المفاوض ومنحهم جرعة أمل بعدما وصلت بهم الحال إلى تلاشي أي مفاعيل قادرة على حفظ حقوق لبنان، بفعل مواقف الرؤساء والمسؤولين المعنيين بهذا الملف ونظرتهم إليه وقرب تخلّيهم عنه لقاء وعود مزعومة يتلقونها من الجانب الأميركي عبر الوسيط الجديد عاموس هوكشتين.
وموقف الحزب تأسيساً على ما تقدم، وعطفاً على وضعيته السياسية التي أعلن عنها السيد نصرالله بنفسه ووصفتها بأنها “مؤثرة” تبعاً لأن “حزب الله”، يُعدّ أكبر حزب في لبنان، يأخذ صفة خاصة ويكاد “يفرمل” أي اندفاعة داخلية باتجاه إبرام معاهدات أو اتفاقات “جانبية” مع الجانب الأميركي بصفته وسيطاً “مقرراً” في مجال التفاوض ويحصّن الموقف اللبناني، كما أن إدخال الحزب لعنصر القوة قد يسفر عن تأدية غاية أساسية كتهدئة خطوات العدو الجارفة تجاه سلب حقوق لبنان، مستغلاً حالة التخبط التي كانت سائدة على المستوى السياسي. ويقول أحد المعنيين بملف الترسيم، أن الجانب الإسرائيلي بدت عليه خلال الفترة المنصرمة مظاهر التشويق، وبدا عبر الإعلام “شغوفاً” في التمدّد أكثر تجاه حقوق لبنان والسطو عليها، لكن مواقف “حزب الله” بصفته المقاومة والتي توالت على مدار أكثر من خطاب لنصرالله، أملت على العدو إعادة النظر في حساباته، وبات حريصاً على تصفير المشكلة خشيةً من عدم “تهشيل” الشركات التي وفي النهاية تحتاج إلى ظروفٍ مشجعة للإستثمار والعمل.
ورصد المصدر، أن موقف الحزب المستجد، يعيد التوازن إلى الملف، ويشكّل عامل تحفيز بالنسبة إلى تأمين حقوق لبنان، ويسرّع في إنجاز الإتفاق بناءً على القراءة اللبنانية، و يفرمل الإندفاعة المعادية ويعيد تهذيب الإجراءات الصهيونية. في مكان آخر يؤدي دخول الحزب على الملف ، إلى تشكيل عامل قلق بالنسبة إلى الجانب الأميركي “المرتاح على وضعه” داخلياً، طالما أنه وضع أكثر من مرجع ” في الجيبة”. وبناءً على دور الحزب في مجال استيراد المحروقات وما حقّقه من نتائج، فإن ذلك يشكل مقصداً للرصد طالما أن للحزب قدرة مثلاً على شمل دخوله المحروقات مجال التنقيب عن النفط والغاز. ففي النتيجة الحزب عبر أمينه العام، سبق وأن أعلن بأنه لن يترك حقول لبنان مستباحة، وهو مستعد للتحدث مع شركات إيرانية من أجل إدخالها ضمن مجال الطاقة، أي المكان الذي يتحسّس منه الأميركيون على نحوٍ واضح. فهل سيشكّل الحزب ضمانة تأمين اتفاق “عادل” بالنسبة للبنان للشروع في استثمار مجال حقوقه؟