في 23 أيلول الماضي، ادّعى المحامي العام المالي القاضي جان طنوس على «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت ش.م.ل.» (سوليدير) ورئيس مجلس إدارتها ناصر الشماع، وكل من يظهره التحقيق، للاشتباه بهم في الاستيلاء على أموال عقارية عامة وتسجيلها في السجل العقاري خلافاً للقانون، وتحوير عقد أشغال عامة، والتهرّب من تسديد الضرائب والرسوم. وطلب طنوس من قاضي التحقيق الأول في بيروت إجراء التحقيقات الاستنطاقية بحق المذكورين والاستماع الى الموظفين العموميين المعنيين في الإدارات. المسار القانوني والقضائي لادّعاء مماثل يُحتّم إحالة الملف الى قاضي تحقيق للمباشرة به. لكن ما حصل، فعلياً، أن ورقة الطلب التي أعدّها طنوس حُفظت في أدراج النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم. وبعد شهر ونصف شهر على الادّعاء، لم يُحل الملف الى أي قاضي تحقيق.
بسؤال القاضي إبراهيم عن مصير القرار، يأتي الردّ مقتضباً: «عندي، أنا عم تابعو» من دون أن أي معلومة أخرى. وبحسب مصادر قضائية مطّلعة، فإن «توقيع المحامي العام على الادعاء يعني تحرّك الدعوى العامة مباشرة ولا إمكانية بعدها للتراجع. أما سحب القاضي إبراهيم للملف وتنييمه، فلا يدخل سوى في إطار عرقلة سير الدعوى والتدخل لوقف المسار القضائي التلقائي». وتعزز هذه الفرضية زيارة المُدّعى عليه، الشمّاع، مكتب إبراهيم بعد أيام على إصدار القرار، لا للتحقيق معه بل لتناول «فنجان قهوة».
وهذه ليست المرة الأولى التي يلفلف فيها ملف لـ«سوليدير». إذ دأبت كل الأجهزة القضائية على الانصياع لسطوة القيّمين على الشركة التي ابتلعت وسط المدينة وبحرها. وبدل معاقبة سارقي المال العام والخاص، جرت العادة بتأديب أيّ قاض أو موظف يتجرأ على المسّ بهم، ولفلفة القرارات التي يمكن أن تمسّ بمصالح الشركة. فقبل عام ونصف عام، أصدرت المستشارة المقررة في مجلس شورى الدولة، القاضية ريتا كرم، قراراً بإبطال مرسوم التمديد لـ«سوليدير» وتصفية أملاكها لإعادتها الى أصحابها، بناءً على مراجعة قانونية قدّمها مالك فندق «سان جورج» فادي خوري، مشيرة الى ضرورة «التقيّد بعمر الشركة الرئيسي» الذي كان يفترض أن ينتهي عام 2019»، قبل أن تمدّد عمرها حكومة فؤاد السنيورة عام 2005 لعشر سنوات أخرى (2029). غير أن «الردّ» على كرم جاء من رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس الذي سحب الملف منها ووضعه في عهدة مجلس القضايا، وكلف مستشارة أخرى إعداد تقرير جديد ينقض القديم. ومذذاك، لا يزال القاضي إلياس «يشبع» الملف «درساً».

«نهب» بغطاء رسمي
في الادعاء المقدّم من المحامي العام المالي، يعدّد الأخير، في حيثيات الادعاء، الأسباب القديمة نفسها والتي عمرها من عمر نشأة الشركة، أي منذ توقيع «سوليدير» اتفاقاً مع الدولة اللبنانية ممثلة بمجلس الإنماء والإعمار عام 1994 (المرسوم 5665)، وصولاً الى يومنا هذا. إذ إن المهمة الأساسية لـ«الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط المدينة» حُدّدت بالقيام بأشغال عامة بقيمة 129 مليون دولار، واستحداث منطقة مردومة في محلة النورماندي مع إنشاء مرفأين سياحيين وخطّين دفاعيين بحريين بقيمة 346 مليون دولار. وقضى الاتفاق يومها بأن تمنح الدولة الشركة 35% من مساحة الأراضي الناتجة من الردم (على أن تحدد الدولة هذه الأراضي لتحظى بالمساحات القابلة للتطوير العقاري لا أن تختارها الشركة) مقابل الأشغال التي ستقوم بها بدل الدفع لها نقداً. في السنوات اللاحقة، أُدخلت تعديلات على المخطط الأصلي لناحية زيادة مساحات الردم. إلا أن ذلك لم يمنح «سوليدير» أي حقوق إضافية. وفي عام 2003، خلافاً للمرسوم 5665، اختارت الشركة أجزاء من الأراضي الفضلى في محيط المرفأ السياحي الغربي وطلبت من مجلس الإنماء والإعمار تملّكها، فتنازل الأخير عن حق الدولة في تحديد الأراضي الفضلى. أكثر من ذلك، أيّد المجلس موقف الشركة لجهة عدم ترتب رسوم تسجيل العقارات العائدة لها في منطقة الردم، ولم يتوجّه الى هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل للوقوف على رأيها. ورغم تلك المخالفات، وافق أمين السجل العقاري في بيروت على طلب «سوليدير»، ما أدى الى تهرّب الشركة من تسديد رسوم التسجيل العقارية.

عام 2004، نفّذت الشركة «ضرب احتيال» آخر تمثل بتأسيس كل من «سوليدير» (لم تكن تحوز يومها حق تأسيس شركات بحسب نظامها، بل حصلت على هذا الحق عام 2007)، وشركة «ستو» (يملك غالبية أسهمها الوزير السابق محمد الصفدي) لشركة «إنماء واجهة بيروت البحرية ش.م.ل.». وتعاقدت الشركة المؤسسة حديثاً مع «سوليدير» على بيع العقارات على الواجهة البحرية وواجهة المرفأ السياحي الغربي (1373، 1402، 1453، 1454، 1455، 1456 ميناء الحصن). و«اكتمل النقل بالزعرور» مع تعيين الصفدي وزيراً للأشغال العامة والنقل عام 2005، فوقّع مرسوم تعديل التصميم التوجيهي والنظام التفصيلي العائد للقطاعين المتضمنين المرفأين الشرقي والغربي والواجهة البحرية، بحيث تم تغيير تصنيف العقارات التي اشترتها «إنماء واجهة بيروت» من «عقارات قابلة للاستثمار وغير قابلة للتطوير» الى «قابلة للاستثمار والتطوير». وشملت التعديلات المرفأ الشرقي الذي جرى تصغير حجمه ونقله من الواجهة البحرية الى داخل المنطقة المردومة، وأنشئت جزيرة مقابل فندق «سان جورج»، وجرى تحوير الطريق العام المحاذي للواجهة البحرية، ما جعل جزءاً كبيراً من الأراضي الإضافية قابلاً للتطوير العقاري، وبالتالي للتملك من سوليدير.
عام 2006، سُجّلت ثلاثة عقارات باسم «إنماء واجهة بيروت البحرية» بعد حصولها على سلة تخفيضات وإعفاءات ضريبية من مؤسسة «إيدال»، وتعديل حقوق الاستثمار عليها ما سمح بإقامة نادٍ لليخوت وإنشاءات على شكل مطاعم، في المنطقة التي تُعرف باسم «زيتونة باي».

الجرائم لم تسقط بمرور الزمن
ما سبق لم يشبع نهم «سوليدير» وشركائها. فطلبت الشركة عام 2009 الاستيلاء على مساحات إضافية. وتبيّن أن الشركة أقدمت، بالاشتراك مع موظفين عموميين في مجلس الإنماء والإعمار والمجلس الأعلى للتنظيم المدني ودائرة الشؤون العقارية ومجلس بلدية بيروت، على استصدار مراسيم للاستيلاء على الأملاك العامة في النورماندي، وإسقاط الأملاك العامة الى خاصة وتسجيلها على اسمها في السجل العقاري، والتلاعب بالمخطط التوجيهي خدمة لمصلحتها من دون أي قرار رسمي من الدولة اللبنانية. كما تآمرت مع الموظفين العموميين لإفادتها بالأراضي الأفضل في منطقة الردم على حساب الدولة، والتهرب من تسديد رسوم تسجيل عقارية وصلت عام 2010 الى ما لا يقل عن 32 مليون دولار.
هذه الجرائم، وفقاً، للقاضي طنوس، لم تسقط بمرور الزمن لأن الدولة اللبنانية لم تتسلّم بعد كل الأشغال المكلفة سوليدير القيام بها، كما أن «المراسيم الصادرة لتغطية الأفعال الجرمية لا تضفي المشروعية عليها لأنها صدرت بهدف تسهيل عملية الاستيلاء على الملك العام خلافاً للقانون». لذلك ادعى طنوس على «سوليدير» والشماع وكل من يظهره التحقيق مشاركاً في هذه الأعمال، وفي مقدمتهم مجلس الإنماء والإعمار والموظفون المسهّلون لهذه العملية في الإدارات العامة والوزير السابق محمد الصفدي وحكومة السنيورة. ويفترض بادّعاء كهذا أن يساهم في عودة الحق إلى أصحابه، ولو بعد 27 عاماً. لكن الشركة المُحتلة لوسط العاصمة والمستحوذة على أملاك مئات العائلات والمساحات العامة، تحركت فوراً بما تمثله من أخطبوط مالي وسياسي وقضائي، لوقف المسار القانوني وإعادة «تصويب» قوس العدالة كما يحلو لها. الفضيحة الأكبر هنا، أن الشركة نجحت، على الدوام، في إسقاط كل الدعاوى المقامة ضدها. وغالباً ما كانت القرارات تصدر لمصلحتها أو يصار إلى لفلفتها في أسوأ الأحوال. يحدث ذلك دائماً، رغم تبدّل الحكومات والعهود والقضاة وكل الظروف السياسية والاقتصادية والمالية والعقارية.