عبدالفتاح البرهان
ومن خلال المجلس السيادي الإنتقالي المعلن، بات الجيش الآن المرجعية الوحيدة للسلطة، وأي رئيس جديد للوزراء سيختاره البرهان لن يعدو كونه واجهة لحكم العسكريين. وبذلك، ضرب البرهان عرض الحائط بكل المناشدات الغربية وفي مقدمها الأميركية من أجل إعادة رئيس الوزراء المعزول عبدالله حمدوك إلى منصبه والعودة الى العمل بموجب الوثيقة الدستورية التي تم الإتفاق عليها في آب (أغسطس) 2019، أي بعد أشهر من الإنتفاضة على حكم عمر البشير.
ولا يبدو أن البرهان يأخذ على محمل الجد الضغوط الغربية وآخرها الذي صدر الأربعاء عن واشنطن ومفاده أن الولايات المتحدة قد تلغي إعفاء السودان من ديونه، إذا لم تعد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 25 تشرين الأول. وكانت أميركا علقت مساعدات للخرطوم بقيمة 700 مليون دولار عقب عزل البرهان حكومة حمدوك. كما أن نادي باريس هدد قبل أيام بإعادة النظر في قراره شطب جزء مهم من ديون السودان الخارجية.
إذاً، التحذيرات الغربية وقعت على آذان صماء في الخرطوم. ولم تغير شيئاً في خطط البرهان للإستيلاء على الحكم وإستبعاد المدنيين. وحتى لو لجأ الغرب إلى فرض عقوبات على السودان، فالعسكريون السودانيون تكيفوا مع العقوبات. وأصلاً، لن تصيب هذه الإجراءات سوى المواطن السوداني العادي، بينما الجنرالات لن يتأذوا كثيراً أو حتى لن يطاولهم أي أذى بالمرة من الضغوط الخارجية. وفي الماضي غير البعيد، حكم عمر البشير 30 عاماً في ظل العقوبات والعزلة، بينما كان الأذى والضرر يلحقان بالسودانيين العاديين.
ولو لم يستشعر الجنرالات من رفاق البشير الخطر الذي يتهددهم من الإنتفاضة الشعبية، التي إنفجرت في وجه النظام، لما كانوا أقدموا في نيسان(ابريل) 2019 على إزاحته من المشهد، وما إستتبع ذلك من مفاوضات ووساطات دولية أفضت إلى صيغة ملتبسة نصت على إنشاء مجلس سيادي يتقاسم السلطة فيه مداورة، العسكريون والمدنيون في إنتظار إجراء إنتخابات تشريعية بعد 39 شهراً.
يومذاك، كشر العسكريون عن أنيابهم بإرتكاب مجزرة في صفوف المعتصمين أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم. وربما تلافياً لحدوث ما هو أفظع، وافقت قوى الحرية والتغيير التي قادت الإنتفاضة ضد البشير على الصيغة المذكورة، أو ربما إعتقد المدنيون أن الجيش بات في موقف أضعف، وأنه لن يكون في إستطاعته الحكم بمفرده بعدما رأى تصميم المحتجين في الشوارع على التخلص من الحكم العسكري.
بعد عامين، ثبت أن رهان قوى الحرية والتغيير لم يكن في محله، وأن الجيش لن يتخلى عن السلطة، بالسهولة التي تصورها البعض، فإذا بعقارب الساعة تعود إلى الوراء في السودان ويمسك العسكريون مجدداً بكل مفاصل السلطة، وها هم يفاوضون الأطراف الإقليمية والدولية على صيغة حكم جديدة لن تكون سوى تكرار لتجربة البشير.
من عصا البشير إلى عصا البرهان، قدر السودانيين أن يعيشوا مخاضات قاسية، منذ أول إنقلاب نفذه اللواء إبراهيم عبود ضد حكومة إسماعيل الأزهري عام 1958، وكان بالكاد مضى عامان على استقلال السودان عن بريطانيا. وبعد ذلك كرت سبحة الإنقلابات التي فتحت شهية العسكريين على الحكم. ومنذ 1956 وحتى الآن، لم يعرف السودانيون طعم الحكم المدني سوى عشرة أعوام على الكثير.
بعد كل ذلك، لا يعود مستغرباً أن تدور الأزمة السودانية في حلقة مفرغة، بينما التجارب تدل على أن الخارج وكل دعاة الديموقراطية في العالم في لحظة ما، لا يعود يهمهم سوى تأمين مصالحهم، أكثر من حقيقة من يضطلع بهذه المهمة، أكانوا عسكريين أم مدنيين.