كل ما شهده سكان لبنان من أزمات متصلة بمادة البنزين، سواء لجهة الأسعار أو انقطاعها، كان مجرّد تحضير للمرحلة المقبلة. مصرف لبنان سبق أن توقف عن تأمين الدولارات لاستيراد البنزين وفق سعر الصرف الرسمي لليرة (1515 للدولار الواحد)، ولجأ إلى اعتماد سعر منصة «صيرفة»، ما أوصل سعر صفيحة البنزين إلى أكثر من 300 ألف ليرة. ويوم الاثنين الماضي، أبلغ المصرف المركزي وزارة الطاقة أنه سيؤمن 90 في المئة حصراً من الدولارات اللازمة لاستيراد البنزين وفق سعر المنصة، ما يعني أن على شركات الاستيراد تأمين الباقي من السوق الحرة.
هذا الإجراء أبلغه مدير مديرية القطع والعمليات الخارجية في مصرف لبنان، نعمان ندور، إلى وزير الطاقة وليد فياض، في كتاب رسمي. وهو بذلك يفتح الباب أمام ارتفاع إضافي لسعر الدولار، وتالياً لسعر البنزين والسلع كافةً، ويغذّي موجة التضخّم المنفلتة منذ أكثر من سنتين. يُضاف إلى ذلك أن أسعار النفط العالمية في ارتفاع، مع توقعات بأن يصل سعر برميل النفط إلى 120 دولاراً منتصف العام المقبل. يجري ذلك فيما الحكومة لم تتخذ بعد أيّ إجراء يسمح للسكان بعدم الاعتماد كلياً على السيارات للتنقل، كوضع خطة نقل عام موضع التنفيذ فوراً.
ترْك 10 في المئة من الدولارات اللازمة لاستيراد المحروقات لشرائها من السوق ليس سوى البداية، بحسب ما تؤكد مصادر في مصرف لبنان. فحاكم المركزي، رياض سلامة، سبق أن أبلغ المعنيين بأنه لن يستمر في تأمين الدولارات لاستيراد البنزين، وأن على المستوردين اللجوء إلى السوق. ونسبة الـ 10 في المئة ستزداد مع الوقت، لتشتري شركات الاستيراد كل الدولارات من السوق.
صحيح أن استهلاك البنزين يتراجع متأثراً بارتفاع سعره، إلا أن زيادة سحب الدولارات من السوق، ومهما كان حجم هذه الزيادة، ستضاعف من الضغوط على سعر الصرف، وتسبّب المزيد من انهيار سعر الليرة، مع ما لذلك من انعكاسات سلبية على حياة الغالبية العظمى من السكان التي باتت تحت خط الفقر.

هذه الإجراءات خلقت مشكلة لدى وزارة الطاقة: كيف ستعتمد سعراً للدولار في السوق، لتُصدر على أساسه جدول أسعار المحروقات؟ لا وجود لأيّ جهة رسمية تحدّد سعر السوق. مصادر في الوزارة قالت لـ«الأخبار» إن مصرف لبنان سيعتمد معدّلاً أسبوعياً لـ«سعر الدولار في السوق»، ويبلغه إلى وزارة الطاقة لتعتمده لإصدار جدول أسعار المحروقات.
ما يجري هو الترجمة العملية لحالة «السقوط الحر» التي دخلت فيها البلاد، إذ لم تلجأ السلطة، حكومةً ومجلسَ نواب، إلى إقامة شبكة أمان يمكنها جعل هبوط السكان آمناً، أو في أسوأ الأحوال، للتخفيف من الأضرار التي لحقت وتلحق بهم. حتى «خدعة» البطاقة التمويلية، التي جرى تقديمها كبديل من إلغاء دعم استيراد المحروقات والأدوية، لا تزال تدور في حلقة مفرغة، من دون وجود أي ضمانات تحول دون إسقاط مشروعها نهائياً، بذريعة غياب مصادر التمويل. وبدلاً من أن تكون كل هذه الإجراءات الشديدة القسوة من ضمن خطة إنقاذية تعيد تشغيل الاقتصاد وتضمن حماية الطبقات الاجتماعية الأكثر ضعفاً، قررت «الدولة» ترك السكان يواجهون مصيرهم. قبل عام وخمسة أشهر، أسقط مجلس النواب خطة التعافي التي أقرّتها حكومة الرئيس حسان دياب، من دون أي بديل منها، سوى ما يجري تطبيقه حالياً، لجهة جعل عموم السكان، وتحديداً الأكثر ضعفاً، يتحمّلون خسائر القطاع المالي. باختصار، ارتفاع أسعار البنزين وسائر المحروقات، ومعها أسعار السلع كافةً، وانقطاع الكهرباء وزيادة كلفة الطاقة بصورة خيالية، وتضخّم أسعار الغذاء والدواء وكلفة الاستشفاء والنقل والتعليم والهبوط الحرّ لقيمة العملة الوطنية… هي الضريبة التي أُجبِر السكان، والفقراء منهم خاصة، على دفعها، نيابة عن أصحاب المصارف وشركائهم من الأثرياء.