عبد الباري عطوان-رأي اليوم
الوِساطة التي يقوم بها حاليًّا السيّد حسام زكي الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربيّة لحلّ الأزمة بين لبنان من جهة والمملكة العربيّة السعوديّة، وثلاث دول خليجيّة أُخرى تتضامن معها، على أرضيّة تصريحات قديمة أدلى بها الوزير جورج قرداحي حول اليمن، والاتّهامات السعوديّة بسيطرة “حزب الله” على لبنان، هذه الوِساطة تؤكّد أن المسؤولين في الجامعة باتوا مِثل “أهل الكهف”، يتصرّفون كما لو أنّها، أيّ الجامعة، أحد إدارات مجلس التّعاون الخليجي مثلما كان عليه قبل عشر سنوات، وليس جامعة من المُفترض أن تُمثّل 22 دولة عربيّة.
لا نعرف لماذا لم يقم السيّد أحمد أبو الغيظ الأمين العام بهذه الوساطة شخصيًّا، بدلًا من إرسال نائبه، إذا كانت هذه القضيّة الخِلافيّة على هذه الدّرجة من الأهميّة، وتُشَكّل قلقًا للعمل العربيّ، الذي لم يَعُد مُشتَركًا، ولماذا باتت الجامعة لا تتدخّل إلا في القضايا ذات البُعد الخليجيّ فقط، وتتجاهل جميع القضايا الأُخرى، وخاصَّةً في الاتّحاد المغاربي، مِثل الأزمة المُتفاقمة بين الجزائر والمغرب التي وضعت البلدين على حافّة الحرب؟ ناهِيك عن القضيّة الفِلسطينيّة.
الأمر المُؤكّد أنّ السيّد زكي، ومن خِلال مُتابعتنا لتصريحاته، ومُقابلاته، في العاصمة اللبنانيّة، كان يتحرّك كمبعوثٍ للمملكة العربيّة السعوديّة، وليس كمبعوثٍ للجامعة العربيّة، ولم يكن مُحايدًا على الإطلاق في هذا المِضمار، وكُنّا نتمنّى لو أنّ الحُكومة، والأطراف اللبنانيّة الأُخرى تجاهلته، ولم تُعِر مُبادرته أيّ اهتمام.
التّصريح الذي أدلى به السيّد زكي وقال فيه “إنّ استقالة الوزير القرداحي كان يُمكن أن تَحُل الازمة بين لبنان ودول الخليج” جاء تأكيدًا لما ذكرناه آنفًا، لأنّه تصريحٌ تحريضيّ، يربط الأزمة بوزير الإعلام اللبناني، ويُطالب بإقالته، في تَبَنٍّ واضحٍ للمطالب السعوديّة، والانحِياز بالكامِل لوجهة نظرها تُجاه الأزمة، وتدخّل سافر في سيادة دولة لبنانيّة ديمقراطيّة، وحُكومتها المُنتخبة والحائزة على ثقة مجلس الأمّة (البرلمان)، فهل يجرؤ السيّد زكي على مُطالبة أيّ حُكومة سعوديّة بطرد غفير فيها ولا نقول وزيرًا؟ أو يُحمّل هذا الوزير مسؤوليّة أيّ أزمة عربيّة، وما أكثر أزمات العرب التي نشبت بسبب التّطاول من قبل بعض المسؤولين على هذا الشّعب أو ذاك؟
وما يؤكّد أن السيّد زكي زار لبنان كمبعوثٍ للمملكة العربيّة السعوديّة، التّسريبات الصحافيّة ذات الطّابع التّهديدي، التي أفادت بأنّ فشل وِساطته قد تكون مُقدّمة لطرد حواليّ 400 ألف لبناني يعملون في دول الخليج.
بمعنى آخر، أنّ الخِيار المطروح على لبنان من قبل الدّول الخليجيّة الأربع، هو الرّضوخ الكامِل لشُروطها وإملاءاتها كاملةً وإلا تَحَمُّل عواقب طرد المُواطنين اللبنانيين المُقيمين على أرضها، وبكلمةٍ أوضح أنّ رأس الوزير القرداحي في كفّة، وهؤلاء في الكفّة الأُخرى المُقابلة، وهي مُقايضة مُتغطرسة ومُعيبة في الوقت نفسه.
إنّ هذه الجامعة التي وفّرت “الشرعيّة” العربيّة لتدخّل طائرات حلف النّاتو عسكريًّا في ليبيا لتدميرها وتغيير نظامها، وقتل عشرات الآلاف من أبنائها، وجمّدت مقعد سورية الدّولة المُؤسّسة فيها بطَريقةٍ مُهينة، وأيّدت مُؤامرة تدميرها وتفتيتها، وأعطت الضّوء الأخضر لغزو العِراق واحتِلاله، تُريد الآن بوساطتها هذه تشريع طرد 400 ألف لبناني يعملون في منطقة الخليج والذّريعة فشل هذه الوِساطة، وعدم تجاوب السّلطات والنّخبة السياسيّة اللبنانيّة لإملاءات دول الخليج التي حملها أمينها العام المُساعد.
هذه الوساطة لا يجب أن تُرفَض فقط، بل يجب أن تُقاطَع، وأن تُطالب الحُكومة اللبنانيّة، أو ما تبقّى منها، السيّد زكي، وبأدبٍ شديد، بالمُغادرة باعتِباره شخصًا غير مُرحّب به في لبنان لأنّه لا يُمثّل نفسه ولا جامعته، وحان الوقت لوضع حد لهذه “المسخرة” التي اسمها الجامعة العربيّة، والشُّكر موصولٌ للسيّد قرداحي وتصريحاته التي كشفت هذا العفن.
نُعارض بشدّة تحويل العاملين اللبنانيين في الخليج إلى رهائن، وكبش فداء أو ورقة مُساومة، فهذا عمل غير أخلاقي وغير إنساني وغير قانوني، وستَكون له انعِكاساته السلبيّة على من يُقدِم على مِثل هذه الخطوة، إن لم يكن اليوم فغدًا، وربّما يُفيد التّذكير بأنّ إبعاد 400 ألف فِلسطيني من الكويت بعد الغزو العراقي عام 1990 لم يُؤدّ إلى انهِيار الأردن ولم يَمُت أيّ من هؤلاء جُوعًا.
الزّمن يتغيّر، والسّنوات العشر العجاف السّابقة من تاريخ العرب المُظلِم أوشكت على الانتهاء إلى غير رجعة، وما كان يَصلُح أثناءها لم يَعُد يَصلُح اليوم، والسّعيد من اتّعظ بغيره.. ولعلّ ما يحدث في اليمن وفِلسطين المُحتلّة وجنوب لبنان والعِراق من انقلابٍ في موازين القِوى هو أقوى الأدلّة في هذا المِضمار.. والأيّام بيننا.