من روزفلت إلى بايدن: هكذا رسخت واشنطن دولتها العميقة في الرياض!

شركة ارامكو

لم تكن مأرب أولى الضربات الموجعة التي تلقتها السعودية خلال حربها على اليمن، بل كانت الصفعة الأولى التي غيّرت رؤية الولايات المتحدة والسعودية إلى ما يجري في الميدان، في العام 2019، وتحديداً عند استهداف منشآت أرامكو، الشركة التي تعد عاصمة النفوذ الأميركي في الرياض وكنزها الثمين منذ قرون. فلا يمكن قراءة استهداف آرامكو على انه مجرد تطور في القدرات العسكرية لقوات صنعاء، بل هو مساس غير مسبوق بإحدى أركان دولة واشنطن العميقة في الرياض.

أرامكو: واشنطن تغزو الرياض

يقول ريتشارد سانغر في كتابه تخوم عربية “لقد بدت العلاقات السعودية-الأميركية بين ملك يفكر كشركة نفط وبين شركة نفط تفكر كملك”.

من على ظهر إحدى المدمرات الأميركية (يو إس إس كوينسي) في عرض البحر، عام 1945، افتتح الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مرحلة جديدة، حيث اشترى الملك عبد العزيز أمان بلاده واستقرارها بالنفط، ليرسخ بذلك هيمنة واشنطن غير المحدودة والتي ورثّها لأولياء عهده، والذين ورثوا بالتالي “مسؤولية دفع الثمن”.

وقتها فاجأ روزفلت الملك بطلب مساعدته في إتمام مشروع “إقامة وطن لليهود في فلسطين”، لكنه لم يملك الجرأة على الموافقة، وبالوقت عينه لم يستطع أن يتخلى عن “غنيمة الشراكة” مع واشنطن، عندها اتفق الطرفان على ان يتجاوزا الأمر لقاء وعد غير مكتوب من روزفلت انه لن ينصر اليهود على حسابه. غير ان القدر لم يكن لصالح الملك، مات روزفلت بعد شهرين، وجاء هاري تومان الذي دعم قيام “إسرائيل” عام 1948.

وللمرة الثانية لم يتنازل الملك ولم يستمع لنصيحة الرئيس السوري آنذاك -بسحب امتيازات وتعهدات التنقيب عن النفط من شركة أرامكو عقاباً- فلا بنية تحتية للدولة ولا طرق ولا خدمات، والنفط كان الحل الوحيد لحماية الدولة من الانهيار. تورط عبد العزيز ولم يعد بمقدوره التراجع.

عام 1973، ومع اتساع رقعة المواجهات بين العرب وكيان الاحتلال، أي بالوقت الذي وضعت فيه واشنطن كل ثقلها بين يدي “إسرائيل” في تلك الحرب، اضطر الملك لاتخاذ موقف “دعائي” لتقديم نفسه كراعٍ للدول الإسلامية، وقرر قطع النفط، مع الحفاظ على خطوط التفاوض مع واشنطن مفتوحة وكانت البعثات العسكرية الأميركية تواصل تدريب الجيش السعودي، وعائدات النفط تتدفق بشكل ثابت دون انقطاع إلى مصارف واشنطن، والقاعدة الجوية الأميركية في الظهران تواصل مهامها بشكل اعتيادي.

بدأ الشعب السعودي يدفع ثمن رؤية الملك مع الخطوات الاستكشافية الأولى التي بدأتها واشنطن إلى منطقتي موران ووادي العيون، حيث قام المستكشفون بتدمير ممنهج لكل ما في الواحة وتهجير قاطنيها مع بناء نهج نمطي يحكمه مبدأ السادة والعبيد لعمال النفط. ويبدأ بذلك أيضاً ترسيخ حياة اجتماعية أخرى توازياً مع الرؤية الأميركية للبلاد، والتي انطلقت بناء على اتفاقية 1933، التي علمت الولايات المتحدة بعد توقيعها انها باتت تسيطر على السعودية دون منازع.

اتفاقية 1933

أعطت اتفاقية 1933 شركة أرامكو امتيازاً لمدة 60 عاماً للقيام بعمليات التنقيب والإدارة والتسويق للغاز الطبيعي والنفط على امتداد مساحة تقدر 360 ألف ميل مربع، أي ما يعادل نصف المملكة، حيث تشتمل هذه المساحة على كامل النصف الشرقي والربع الخالي. لتعود السعودية وتجدد الاتفاقية لفترة غير محددة وسعت فيها الأراضي لتصل إلى كامل الأراضي السعودية ما عدا الحجاز، مقابل حصول الرياض على نسبة من الأرباح بدأت بمعدل 15% سنوياً ثم وصلت تدريجياً إلى 50% مع بداية السبعينات.

عام 1973، وصل وزير الخزانة الأميركي وليام سايمون إلى جدة وكانت مهمته الأساسية اقناع السعوديين بإتمام صفقة تراها الولايات المتحدة “تاريخية”، وذلك لمنع تهديد الاقتصاد والقطاع المالي الأميركي، حيث تنص هذه الصفقة على شراء واشنطن للنفط وتزويد الرياض بالأسلحة التي تحتاجها مقابل (التهديدات المزعومة التي تحيط بها من الاتحاد السوفياتي) مقابل استثمار السعودية في سندات الخزينة الأميركية بهدف تمويل الانفاق الكبير للولايات المتحدة. حيث اشترت الرياض بحلول عام 1977 حوالي 20% من سندات الخزينة الأميركية المطروحة للبيع.

كان الأمر يتطور بسرعة فائقة حيث وصل حجم التبادل بين الطرفين إلى 38 مليار دولار عام 2016 بعد ان كان 19.3 مليار عام 2000 و56.2 مليون دولار عام 1950. الا ان الديون السيادية السعودية لدى واشنطن التي وصلت إلى تريليون دولار عام 2004 أعطت للأخيرة فرصة ذهبية لتثبيت نفوذها بشكل هائل.

شهدت العلاقات بين الجانبين عدداً من المنعطفات التي كانت تصل في بعض الأحيان إلى اضطرابات ظاهرة في العلاقة، خاصة فيما يتعلق بهجمات 11 أيلول 2001، والتي أتت بعدها الحرب على العراق، وعلى الرغم من ان اتهام واشنطن للرئيس العراقي صدام حسين (علماني التوجه) بعلاقته مع تنظيم القاعدة (السفلي) كان مضحكاً بالنسبة لعبدالله، الا ان الأخير الذي تربطه علاقة ودية مع جورج بوش لم يمانع الحرب، ففي الوقت الذي أدان فيه من على منبر الجامعة العربية غزو العراق واصفاً إياه (بالاحتلال) كانت قاعدة “الخرج” بخدمة القوات الأميركية والتي استفادت منها طيلة فترة الحرب.

كل تلك التقديمات وغيرها، لم تجعل الرياض تأمَن من أجندات واشنطن، حيث كان يُناقش في أروقة مجلس الدفاع تقريراً مفاده أن “السعودية جزء من مشكلة الإرهاب الدولي وليست جزءاً من الحل”. لتبدأ بعد ذلك تداعيات الحرب العراقية تؤثر بشكل فاعل على العلاقة بين الرياض وواشنطن وظهرت جلياً في عدد من الملفات في المنطقة، فوصولا إلى الربيع العربي كان عبدالله ينتظر من أوباما تقديم كل التأييد والدعم للرئيس المصري حسني مبارك لكنه لم يفعل. كذلك الأمر بالنسبة للبحرين وسوريا وايران…

بذلك ترسخت خيبة الأمل السعودية، فأوباما الذي قمع السعوديين وانهكهم مع بداية عمل أرامكو هو اليوم حريص على حرية التعبير في مصر. ليقتنع عبدالله ان الولايات المتحدة مستعدة أن تنسى وعودها بأي لحظة، وها هو أوباما يفعل كما فعل بوش ونيكسون وروزفلت وبات عليه الاعتماد على نفسه.

مع رحيل أوباما كانت السعودية أمام مسارين إما مجيء هيلاري كلينتون التي تمثل امتداداً لسياسة أوباما أو دونالد ترامب الذي لا يرى بالرياض أكثر من “بقرة حلوب” عليها أن تدفع مقابل أي شيء تريده. وجاء ترامب.

استطاع ترامب ومن خلال تعامله مع السعودية ان الأخيرة شنت حربها على اليمن من موقع ضعف لا قوة، حيث أنها اختارت صنعاء لتستعرض على شعبها ثمرة عقود من الصفقات العسكرية لترتكب أبشع المجازر فيها بمساعدة الإمارات واشراف واشنطن.

 بالنسبة للسعودية فقد كانت تعامل ترامب وفق مبدأ (إنه يحب المال لنقم بإعطائه المال) وبدأت الصفقات غير المسبوقة وبشكل جنوني، حيث بلغ حجم صادرات الأسلحة الأميركية إلى الرياض في الفترة ما بين 2015 و2017 ما يتجاوز 43 مليار دولار. والتي زادت في الأشهر الأولى من العام 2018 حوالي 3 مليارات وغيرها من الصفقات والتي كانت آخرها التي أتت بعد قرار إدارة بايدن تجميد تزويد الرياض بالأسلحة، والتي بلغت قيمتها 650 مليون دولار. عدا عن الصفقات الأخرى من فرنسا وألمانيا وروسيا.

توازياً مع ذلك، فقد استمرت الأموال السعودية بالتدفق إلى المصارف الأميركية بوتيرة أكبر في ظل شروط رضيت بها المملكة تقع فيها الالتزامات على عاتق طرف واحد فيما يتملص الطرف الآخر من التزاماته: 50 مليار دولار حجم الالتزامات مع شركة أرامكو كانت الدفعة الأولى من عقود بأكثر من 200 مليار دولار، إضافة لـ 15 مليار دولار من الاتفاقيات مع شركة جنرال الكتريك، و7 مليارات لشركة الحفارات روان، ومئات ملايين الدولارات لبناء بنى تحتية متفرقة في الولايات المتحدة والشركات التابعة لها.

لم يتغير أداء واشنطن في كل الإدارات التي مرت على البيت الأبيض، فالهدف مع تغير الأساليب كان واحداً، غير ان تورط السعودية وفشلها في كبح جموح الأميركيين لترسيخ هيمنتهم في البلاد كان يزداد مع كل رئيس جديد.

لا يمكن وصف التواجد الأميركي في السعودية إلا “بالاحتلال”، وإذا كان بندر بن سلطان قد وصف العلاقات القائمة بين الطرفين “بالزواج الكاثوليكي”، فإن عمر العلاقة المتبقي لا يمكن أن يزيد عن حجم الأموال السعودية المتدفقة إلى المصارف والشركات الأميركية، وهو عمر لا يعد طويلاً في ظل تغير الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط، والموت قادر على انهاء أي علاقة، ولعله سيأتي من اليمن، قريباً.


الكاتب: الخنادق

Exit mobile version