خاص النشرة
لا تبدو محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، أو التي ربما أريد لها أن تفشل عن سابق تصوّر وتصميم، “معزولة” في الزمان والمكان، عن سياق من الأحداث التي تتوالى على المنطقة في الآونة الأخيرة، والتي لا شكّ أنّ عنوانها المشترك الطاغي والغالب هو “التصعيد” بكلّ أشكاله وتفرّعاته.
فما حصل في بغداد جاء في سياق من “التصعيد” غير المسبوق في داخل العراق بالدرجة الأولى، حيث وصل الانقسام إلى “ذروته” في الأيام الأخيرة، بعدما “عقّدت” الانتخابات النيابية المبكرة التي جرت الشهر الماضي الأوضاع بدل أن تحلّها، على وقع الاتهامات بـ”التزوير” التي رفعها الخاسرون، وترجموها احتجاجات في الشارع، كان من الطبيعي أن تنحرف عن مسارها، وتنقلب إلى “صدامات دموية” كما حصل الجمعة.
لكنّ “التصعيد” الذي بلغ أوجه مع محاولة اغتيال الكاظمي، يتجاوز العراق في إطار “الضيّق” ليشمل المنطقة ككلّ، حيث إنّ ما جرى يأتي في مرحلة “اصطفاف حاد” تشهدها المنطقة، مع اشتداد “الكباش الإقليمي” بين السعودية وإيران، وهما للمفارقة اللتان تخوضان منذ فترة حوارًا لم يخرج بعد من دائرة “العموميّات”، برعاية العراق، بل الكاظمي نفسه، وإن “جُمّد” بموجب الانتخابات العراقية، وما رافقها وتلاها من ملابسات وتعقيدات.
وفي التوقيت أيضًا، ثمّة “قناعة” لدى كثيرين بأنّ كلّ ما يجري في الإقليم هذه الأيام، لا بدّ أن يكون له “ارتباطات” بالمحادثات النووية التي يرتقب أن يتمّ إحياؤها بين إيران ودول الغرب نهاية الشهر الجاري في فيينا، بعد توقف منذ ما قبل تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو ما يستوجب من كلّ طرف وضع “أوراقه” على الطاولة، تمهيدًا للتفاوض في شأنها في الجولة “الموعودة” والمُنتظَرة.
وقد لا يكون لبنان بعيدًا عن أجواء التصعيد هذه، هو الذي تربطه الكثير من “أوجه الشبه” أصلاً مع العراق، يبدأ من “الانقسام العموديّ” الذي يهيمن عليه بين معسكرَين “متخاصمَين”، واحد يوالي إيران حتى العظم، وآخر ينصب لها العداء، ويسعى لـ”شيطنتها”، ويمرّ بمستويات “الفساد” التي يعاني منها الشعبان اللذان “انتفضا” ضدّ منظومة بقيت “عصيّة” على الإسقاط، ولا ينتهي عند “الصراع على النفوذ” القائم فيه، بين كلّ من السعودية وإيران.
ولعلّ التطورات “الدراماتيكية” التي شهدها لبنان في الفترة الأخيرة تؤكد أجواء “التصعيد” هذه، ففيما كان مُنتظَرًا أن يسود “الهدوء النسبي” بعد تشكيل حكومة طال انتظارها أكثر من عام كامل، إذا بالأمور “تنقلب” رأسًا على عقب، دون أن تتّضح حتى اليوم الأسباب الحقيقية الكامنة خلف مثل هذا “الانقلاب”، لا سيّما أنّ “تعطيل” عمل الحكومة جاء من الأطراف نفسها التي أبدت “حرصًا” على تشكيلها، رغم كلّ الصعوبات والمشقّات.
وإذا كان التحقيق بانفجار مرفأ بيروت شكّل عنوان “جولة التصعيد” الأساسيّة، والذي انتقل بشكل غير عفويّ وغير بريء على الأرجح إلى الشارع، في “واقعة الطيونة” الشهيرة، التي استعادت في بعض حيثيّاتها، أجواء الحرب التي اعتقد اللبنانيون أنّها “ولّت إلى غير رجعة”، فإنّ الأمر سرعان ما انعكس “شللاً سياسيًا”، مع إصرار جهات سياسية على ربط “مصير” الحكومة بـ”تنحية” المحقق العدلي القاضي طارق بيطار.
لكنّ “التصعيد” أخذ في الأسبوعين الماضيين منحىً مختلفًا بالكامل، أكّد بشكل لا يحتمل اللبس فرضيّة “الصراع على النفوذ”، في ضوء الإجراءات الخليجية غير المسبوقة إزاء لبنان، والقطيعة الدبلوماسية التي أعلنتها دول الخليج في وجه لبنان، ويُخشى أن ترتقي لمستوى “قطع العلاقات” بالمُطلَق، وهي إجراءات لم يكن “سببها المباشر” المُعلَن، وهو كلام لوزير الإعلام أدلى به قبل تسلّمه منصبه، “مقنعًا” لكثيرين في الداخل والخارج.
لكن، مع تفاقم الأزمة، بدأ الكثير يتكشّف عن “خلفيّاتها” الحقيقيّة، وقد باح بهذا “المستور” مسؤولون سعوديّون صراحة، وعلى رأسهم وزير الخارجية فيصل بن فرحان، الذي أكّد أنّ مشكلة الرياض مع لبنان تتجاوز تصريحات قرداحي، لتكمن في “سيطرة حزب الله على القرار” في الداخل اللبناني، علمًا أنّ بعض التسريبات تحدّثت عن “شروط” سعودية للحلّ، تنطلق من موقف رسميّ للحكومة اللبنانية ضدّ “حزب الله”، ومن خلفه إيران التي تدعمه، بل يُعتبَر “ذراعها التنفيذية”، أقلّه وفقًا للتصنيف السعودي والخليجي.
هكذا، يبدو واضحًا أنّ لبنان، شاء أم أبى، بات “حلقة” في سياق “المواجهة” الحاصلة في المنطقة، والتي قد تكون محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي واحدة من “تجلياتها”، وسط خشية أن تكون “تداعياتها” على لبنان أكبر بكثير، اللهم إلا أذا أحسن المسؤولون اللبنانيون التقاط “الرسائل” من خلف البحار، والعمل لتفويت الفرصة على أيّ “مغامرات” من شأنها “الاصطياد” في المياه العكرة، التي تبدو الساحة اللبنانية بيئة خصبة لها هذه الأيام.
في هذا السياق، يقول العارفون إنّه ثمّة مسؤوليات كبرى على الجانب اللبناني المبادرة إليها لـ”تحصين” الساحة بالتي هي أحسن، في ظلّ أجواء التصعيد غير المسبوق في المنطقة، وقد يكون أولها تخفيض سقف التصعيد والتخوين، ووضع حدّ للاتهامات المتبادلة بين هذا الفريق وذاك، ووقف مهزلة التعطيل المتمادي في المؤسسات الرسمية، والأهمّ من ذلك، محاولة حل الخلاف مع الخليج بالسبل الدبلوماسية، ودون “تشويش” يعكّر صفوها.
قد لا تكون المهمّة “يسيرة”، خصوصًا أنّ البلاد على أبواب انتخابات، يُخشى أن ينتظرها “سيناريو” شبيه بذلك العراقي، حيث تحوّل “مفتاح الحلّ” المفترض إلى “أزمة الأزمات”، لكنّها بالتأكيد “خطوة أولى” في مسار “الإنقاذ” الذي لم يُسمَح للحكومة أساسًا الشروع فيه، وفق ما تعهّدت به في بيانها الوزاريّ، وذلك تفاديًا ليس لـ”عرقنة لبنان”، وفق ما يقول البعض، ولكن لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لطالما كان لبنان، كما العراق، ساحة لتبادل الرسائل الإقليمية بين طهران والرياض وغيرها، وفي الكثير من الأحيان، بوابة لـ”تصفية الحسابات”، إن جاز التعبير، لكنّ الأكيد أنّه في ظلّ الوضع الحالي الذي يشهده، غير قادر على “مواجهة” أيّ امتحانٍ أو تحدّ، فكيف إذا كان بحجم محاولة الاغتيال التي حصلت في العراق، أو ربما بحجم اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، لا سيما بعدما “قارن” كثيرون في اليومين الماضيين بين الحدثين!.