من “دائماً إلى جنبك”… إلى “دبّر حالك” المصارف تُعيد تموضعها “جغرافياً” على حساب راحة مودعيها
أحد المصارف الذي زاد عدد فروعه إلى حوالى 24 فرعاً بعد شرائه مصرفين آخرين، عاد اليوم ليقلص وجوده إلى 5 فروع فقط. فاختفت فروع الأطراف، وتحديداً في غرب بيروت وصيدا وطرابلس. وأصبح لزاماً على زبائنه الموظفين في تلك المناطق المخاطرة بدفع 300 ألف ليرة بنزين للوصول إلى مركزه الرئيسي، أو أحد فروعه في الأشرفية لسحب الحد الأقصى المسموح به، أي 400 دولار على أساس 3900 ليرة أو ما يعادل مليوناً و560 ألف ليرة، وذلك من دون أن يضمنوا إن كان الصراف الآلي شغالاً أو خارج الخدمة، مثلما يحدث في كثير من الأحيان مؤخراً. مصرف آخر سيقفل كل فروعه في بيروت، وسيحصرها بفرعه الرئيس قي “كليمنصو”، وبفرع آخر في منطقة “فردان” بالقرب من دار الطائفة الدرزية.
على حساب المودعين
كما كان التوسع الهائل للمصارف خلال السنوات الماضية من حساب العملاء، فان الإنحسار يأتي اليوم على حسابهم أيضاً. فمن أصل 1100 فرع تعود لـ 61 مصرفاً، من المنتظر أن ينخفض عدد فروع البنوك في نهاية العام الحالي إلى حوالى 700 فرع فقط. هذا التراجع بنسبة 35 في المئة الذي تعزوه مصادر من القطاع إلى عملية تخفيض التكاليف وصرف الموظفين التي تقوم بها البنوك بعد انعدام المنافسة في ما بينها، وانتهاء “فقاعة” التسويق، يدفع ثمنها المودعون. فـ”هم يتعرضون لعملية إذلال يومية من خلال إقفال الفروع القريبة من مناطق سكنهم وعملهم، ولا سيما في مناطق الاطراف، وحصر هذه الفروع في الإدارات العامة والمراكز الرئيسية”، يقول نائب أمين عام جبهة التحرر العمالي ونائب امين عام اتحاد نقابات موظفي المصارف أكرم عربي. بما يشبه عملية “قرصنة” جديدة على المودعين تأتي بعد احتجاز ودائعهم، وإلزامهم بتعاميم مصرف لبنان وتحديد 151 و158، وتسديد مستحقاتهم بأقل من 80 في المئة من قيمتها الحقيقية.
إرهاق القوى العاملة
حق المصارف بتخفيض أكلافها في ظل هذه الظروف، “يجب ألا يكون على حساب زبائنها وموظفيها”، يقول عربي. فـ”ليتحملوا المسؤولية، وليضحّوا من أرباحهم قبل أن يحمّلوا عبء إعادة الهيكلة الانتقائية للمواطنين”. كلام عربي يتقاطع مع تقرير”مرصد الإقتصاد اللبناني لربيع 2021″ الصادر عن البنك الدولي تحت عنوان “لبنان يغرق”، الذي أشار إلى أن عبء التكيف الجاري وتقليص ميزانية القطاع المصرفي بشكل كبير يركزان على المودعين الصغار والغالبية الساحقة للقوى العاملة والمؤسسات الصغيرة”. الأمر الذي يؤدي إلى إرهاق صغار المودعين والقوى العاملة، خصوصاً في ظل ارتفاع كلفة النقل بأكثر من 1200 في المئة والانهيار المستمر بالقدرات الشرائية. فلم يحصل في أي دولة بالعالم أن تحمل المودعون وحدهم عبء الازمة اقتطاعات من الودائع وتقليص في عدد الفروع، حتى قبل الإعتراف من قبل المصارف بالخسائر”.
“دبّر حالك”
هكذا، بدأت تدريجياً تتلاشى شعارات “دايما بقربك”، “مصرفك حدك”، و”الوحيد بمار مخايل فاتح 24/24 ومنو pub”… ليحل مكانها شعار “دبّر حالك”. فكانت الكلفة على المواطنين باهظة. ففي كل قرية هناك عسكريون، موظفون، أساتذة ومتقاعدون أجبروا على توطين رواتبهم في المصرف بناء على خطة التوسع بالتعاون مع وزارة المالية لتوطين رواتب القطاع العام”، يقول عربي. وكان لا بد للمصارف من التوسع أفقياً في مختلف القرى والمناطق في إطار المنافسة وخلق الحوافز التي تضم أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع”. وقد انعكس هذا الأمر على التوظيف. حيث استوعب القطاع المصرفي آلاف الخريجين السنويين حتى وصل عدد موظفيه إلى حدود 26000 موظف. اليوم ومع حالة الانكار التي يعيشها القطاع المصرفي، بدأ المودعون والموظفون بدفع الثمن، حيث ستنعدم قدرة وصول الكثيرين إلى مصارفهم. ولن تجديهم بطاقات الاعتماد نفعاً بعد توقف أغلبية المؤسسات عن القبول بها. كما أن عدد المصروفين سيصل نتيجة تقليص الفروع إلى 4000 موظف في نهاية العام. يصرفون بتعويضات مجحفة ستبقى ارقاماً في حساباتهم عاجزين عن الاستثمار بها. وهي لا تأخذ في الاعتبار لا المنطق، ولا تفانيهم وتضحياتهم لمؤسساتهم المصرفية. حيث كان لهم الدور الأساسي في إنجاح هذا القطاع”، بحسب عربي.
إجراء طبيعي!
الانكماش المتوقع في القطاع المصرفي منذ نهاية العام 2019 انعكس بشكل تلقائي “تراجعاً في حجمه”، برأي المستشار المالي والمصرفي غسان أبو عضل. فـ”مع إنكفاء التدفقات النقدية وغياب المنافسة، كان لا بد للمصارف أن تعود إلى أحجام أصغر بكثير”. ومن وجهة نظره فان “ما يجري مع المصارف اليوم ينطبق على أي نشاط اقتصادي. فانخفاض الانتاجية يؤدي من الجهة المقابلة إلى تخفيض الاكلاف من أجل ضمان الاستمرار. وأول ما تعمل عليه المؤسسات هو تقليص انتشارها الجغرافي وتخفيض أعداد موظفيها”. أما بالنسبة إلى زبائن المصارف فيعتبر أبو عضل أن “تعاملاتهم أصبحت تقتصر على سحب المبالغ النقدية التي تسمح بها تعاميم مصرف لبنان. وذلك من بعد ما توقفت المصارف عن الاعمال التقليدية كالتسليف وفتح الحسابات وتلقي الودائع وغيرها الكثير من الانشطة. وعليه فان الزبائن لن يتضرروا من تصغير حجم القطاع المصرفي واقفال الفروع. وبرأيه فان جزءاً كبيراً من الموظفين في مختلف القطاعات الانتاجية الخدماتية سيتركون أعمالهم بحثاً عن فرص أفضل في الخارج، بعدما ضاقت بهم سبل العيش ولم تعد رواتبهم تكفيهم.
الاجراءات التي تحافظ على بقاء المؤسسات قد تكون مفهومة في ظروف الانكماش الطبيعية، أملاً في استعادة النشاط مستقبلاً. إنما مع الدور الأساسي للمصارف بالأزمة، واستمرار تنكرها للحلول المنطقية، فان صرف موظف من هنا واقفال فرع من هناك لا يضمنان استمراريتها”، يقول أحد المصادر المصرفية. “إنما المطلوب إعادة هيكلة شاملة على أسس متينة، وتحمل أصحابها جزءاً من الخسائر بدلاً من رميها على عاتق المودعين والمواطنين لتستمر وتحيا كـ”زومبي بنك” لا قيمة اقتصادية لها