عين أوروبية على التطرف
نشر المركزُ الدولي لمكافحة الإرهاب، في لاهاي، في وقتٍ سابق من هذا العام، دراسةً تبحث آثار النزعة السلفية على بعض المجتمعات المسلمة في هولندا. شملت الدراسة إجراء 15 مقابلة مع أفرادٍ من الجالية المسلمة الهولندية. وسلّطت بعض الاستنتاجات الرئيسة الضوء على إخفاقات سياسات تدخُّل الدولة في كبحِ انتشار السلفية. كما تتناول الدراسة بالتفصيل بعض الجوانب التي أسيء فهمُها، فيما يتعلق بالشعبية المفاجئة للحركة الإسلاموية المتطرفة.
بشكلٍ عام، يمكن القول إن التعميمات التي أطلقتها شخصيات سياسية عامة حول الجالية المسلمة الهولندية دفعت المسلمين الهولنديين العاديين والمعتدلين للعزوف عن التعاون مع السلطات الأمنية في الدولة. وبدلًا من النجاح في إبعاد الحركة المتطرفة الهامشية، نجحت سياسات الحكومة في تنفير الشريحة المسلمة بأكملها؛ الأمر الذي ثبط الجهود الرامية إلى وقف انتشار السلفية، بل أدّت في الواقع إلى زخم معاكس.
بداية، تؤكد الدراسة أن الحركة السلفية تضم فئاتٍ عديدة. وفي حين يصوّرها الأكاديميون على أنها حركة سنيّة إصلاحية تفسر الدين الإسلامي في شكله الأكثر تقليدية وحرفية؛ وفقًا للأجيال الثلاثة الأولى من الإسلام، فإنها أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير.
وعلى حين كان هذا التعريف مناسبًا منذ عقود، فقد تطورتِ الحركة منذ ذلك الحين، والآن يفضل العلماء تقسيم السلفيين إلى ثلاث فئاتٍ: السلفيون الهادئون غير السياسيين، والسلفيون السياسيون، والسلفيون الجهاديون. وتشدد الدراسة على أنه من أجل فهم المشكلة الحالية التي تواجه المجتمع الهولندي، يجب إدراك أن الحركة السلفية ليست متجانسة.
جذور الانقسامات
تشير الدراسة إلى عام 2004 حيث حدث صدع في المجتمع الهولندي، وقت اغتيال ثيو فان جوخ، المخرج السينمائي الذي صنع فيلمًا قصيرًا يصوّر كيف يسيء الإسلام معاملة النساء. وقد قُتل على يد جهادي سلفي يدعى محمد بويري، وكان هذا الحادث حافزًا للخطاب والمواقف المعادية للإسلام في المجتمع. كما مثّل بداية لأمننةِ النسخة المتطرفة من الإسلام التي تغلغلت في المجتمع في العقود التي تلَت الهجوم الإرهابي.
بالانتقال بسرعة إلى الأمام إلى عام 2019، قدَّم تقرير صدر عن “معهد فيروي جونكر” أدلةً دامغة على مدى سوء فهم ظاهرة السلفية، وعدم بحثها بشكلٍ كاف. وقد خلص تحليل أدبيات هولندية تمتد لقرابة 15 عامًا حول هذه القضية، إلى أن تصنيفَ الجماعات السلفية غير العنيفة كتهديدٍ أمني قاد إلى نتائجَ عكسية، تسببت في نفور شرائح كبيرة من المسلمين الهولنديين غير العنيفين.
ونتيجة لذلك، يعتقد أكثر من 50% من المسلمين الهولنديين أن الغرب يرغب في القضاء على دينهم بالكامل. وأشارت دراسة عام 2019 إلى أن الاعتماد على المصادر الثانوية، بدلًا من المصادر الأولية، يقوّض القدرة على فهم المشكلة بشكلٍ صحيح، وإيجاد حلول أكثر فعالية لمكافحتها.
ويشير التقرير إلى أن سياسات الأمننة زادت من ترسيخ عقلية “نحن مقابل هم”. وقد ترجمت هذه إلى تفاعلات المسلمين العاديين مع أجهزة الأمن، بحيث بات يشوبها جوٌّ من القلق والهلع. وشعر المسلمون بأنهم يتعرضون للتمييز والاستهداف والتهميش من قبل مجتمع يزدريهم بسبب معتقداتهم.
أظهرت المقابلات التي أُجريت لغرض الدراسة أن الذين استطلعت آراؤهم قد أصبحوا شديدي الوعي والحساسية بشأن مستويات التدين المتوقعة. وأشاروا إلى أنهم يخشون من أن تعميم الحكومة لمفهومها للسلفية على المسلمين كافة، وتعريفها غير الصحيح لما تعنيه الممارسات “المتزمتة” للدين الإسلامي، دفع العديد من المسلمين الذين ينتمون إلى التيار الرئيس إلى الاعتقاد بأنهم سيُنظر إليهم على أنهم سلفيون أيضًا.
وقد أدى ذلك إلى شعور “باليقظة المفرطة” بين المسلمين الهولنديين، حيث شعر الكثيرون بأنهم مجبرون على تخفيف سلوكهم خوفًا من أن يُنظر إليهم على أنهم متطرفون. لقد شعروا حقًا بأن المجتمع الهولندي لن يقبل الإسلام قبولًا كاملًا بسبب الخطاب النمطي المستمر ضد الإسلام الذي دأبت وسائل الإعلام والحكومة والمدارس على ترويجه. وقد أدّى ذلك إلى نوعٍ من ممارسات الرقابة الذاتية في المجتمعات المسلمة.
صنَّاع السياسة غير المستنيرين
وصفت سارة، إحدى السيدات اللاتي أُجريت معهن مقابلات، مصطلح “السلفية” بأنه “مصطلح شامل” حيث لا يعترف المجتمع بالتمايز بين مختلف أنواع السلفية أو يفهمه. وبطبيعة الحال، أفضى سوء الفهم هذا إلى زيادة كراهية الإسلام في المجتمع الهولندي. ورأت أغلبية ساحقة من الذين استطلعت آراؤهم أن صانعي السياسات غير مطلعين جيدًا على المسألة، ولم يحللوها ويدرسوها على النحو الواجب بطريقةٍ موضوعية. وقد أظهرت الدراسة أنه نتيجة لهذه الأخطاء السياسية، حالت العقبات البيروقراطية دون تغلب المجتمع على المواقف المعادية للإسلام، وتصحيح المفاهيم الخاطئة تجاه السلفية، والإسلام ككل.
قدم المشاركون في المقابلات مثالًا على مدى جهل صانعي السياسات بالقضية، مشيرين إلى خطأ فكرة الدولة بأن السلفيين المتطرفين يتركزون إلى حدٍّ كبير في مناطق حضرية كبيرة، وقالوا إن هناك في الواقع وجودًا أكبر في المدن الصغيرة نظرًا لأن هذه المناطق تقلُّ فيها المراقبة والتواجد الأمني. وذكروا أسماء أماكن مثل جلين، أوس، دلفت، ليدشندام، رورموند، ماستريخت، إد، دن بوش، زيلاند، ونيميجن، كأماكن استقر فيها السلفيون المتطرفون.
رأس المال الاجتماعي
علاوةً على ما سبق، أشار المشاركون في المقابلات إلى الشعور بالهوية الوطنية كقوة مثبطة للانضمام إلى السلفية المتطرفة. وأشار المشاركون من الجنسية التركية إلى انخفاض عدد الأفراد المتطرفين في مجتمعهم المحلي، وعزوا ذلك إلى حقيقة الشعور بالانتماء إلى الجالية التركية.
وأضافوا أن وفرة الموارد الثقافية لهذا المجتمع قلَّلت من حاجة الشباب التركي للبحث عن رأس المال الاجتماعي في أماكن أخرى. وكانوا أقل ضعفًا وعُرضة للوقوع فريسة للدعاية المتطرفة وتكتيكات التجنيد.
على العكس من ذلك، كشفت الدراسة أن المسلمين الهولنديين من أصول مغربية أو جزائرية أكثر قابلية للتأثر بسبب افتقارهم إلى التماسك كمجتمعٍ عرقي، ولغياب رأس المال الاجتماعي. وتمكّن مجندو السلفيين من استغلال هذه المجتمعات الضعيفة بحثًا عن الشعور بالانتماء، واستغلال تصورات التمييز وكراهية الإسلام لتعزيز عمليات التجنيد.
قوة الإنترنت
بعد ذلك، تنتقل الدراسة لمناقشة التحديات المرتبطة بمراقبة الدعاية الجهادية على الإنترنت. سجل التواجد على الإنترنت ثالث أعلى مستوى في فئة الاستطلاع الخاصة بتأثير السلفية المتطرفة”. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى ظهور “الجيل زد” (Generation Z) جيل البارعين في التكنولوجيا، المنغمسين في الثقافة على الانترنت.
ولأن هؤلاء الشباب لا يعرفون سوى عالمٍ تتوفر فيه المعلومات بسهولة على أجهزتهم الإلكترونية، فإنهم أكثر عُرضة للتجنيد عبر الإنترنت، وأقل عُرضة للتجنيد وجهًا لوجه. ومن ثم فإن القدرة على الوصول إلى هذه العقول الشابة التي لا تزال قيد التطور والتشكّل، وبالتالي يسهل تشكيلها، هي قوة استثنائية يصعب مكافحتها على النحو الصحيح.
السبب في تفضيل أساليب التجنيد على الإنترنت واستخدامها بكثافة يرتبط أيضًا بحقيقة أنها تنطوي على مخاطر منخفضة للكشف، على عكس التجنيد وجهًا لوجه. علاوة على سريتها وسرعة وحجم المعلومات التي يمكن الاطلاع عليها وإعادة مشاركتها من خلال الانترنت.
لا يحتاج المتحدث المتطرف إلى جمهور مادي ليخاطبه، بل يحتاج ببساطة إلى كاميرا ويستطيع مشاركة خطبته بشكل كبير عبر الإنترنت، والوصول إلى الآلاف من الأشخاص. وعندما يقترن ذلك بضعف فرص الحصول على التعليم، لا سيما المعرفة الإسلامية السليمة، فإنه سيؤدِّي بلا شك إلى زيادة ميل الفرد إلى تصديق الأيديولوجية المتطرفة، في ظلِّ افتقاره إلى قاعدةٍ صلبة لممارسة التفكير النقدي، والحكم السليم على الأمور.
ضعف المعرفة بالإسلام
هذا الأمر متأصل في حقيقة أن الحاجة إلى هوية تكون أعلى من الحاجة للتدين، حسبما ظهر في إطار فئة التجنيد في الاستطلاع، ما يعني أن الأفراد ينجذبون إلى حدٍّ كبير نحو التطرف بسبب العزلة الاجتماعية أكثر من القناعة الدينية. وفي الواقع، وصف المشاركون في الاستطلاع السلفيين الجهاديين بأنهم في الغالب أفرادٌ ضعيفو التدين تم تجنيدهم في شبابهم، ولم يكونوا متدينين جدًا قبل تجنيدهم. وقال أحد المشاركين: “يفتقر 99.9% من الشباب [المتطرفين] للمعرفة ولا يستطيعون قراءة القرآن، ولا يعرفون التقاليد جيدًا”.
تشتمل التدابير الحكومية التي يجري تنفيذها حاليًا لمكافحة الإرهاب على: إعداد قوائم بالمنظمات السلفية النشطة، وحظر مراكز اللجوء السلفية، ومنع العلاقات الحكومية مع المؤسسات السلفية المعروفة، ومنع الدعاة السلفيين من دخول هولندا، ومنع التمويل من المؤسسات السلفية في بعض الدول منها الكويت وقطر، من بين خطوات أخرى.
ومع ذلك، تخلص الدراسة إلى أن أحد المكونات الأساسية المفقودة في الاستراتيجية هو إشراك المجتمعات المسلمة في منع انتشار السلفية السياسية أو الجهادية. وهذا يؤدي لمواصلة اتباع النهج الخاطئ، حيث يعاقب على الأعمال الإرهابية ولكن لا يمنعها، كمثل من يضع ضمادة على الجرح ولا يعالجه. وهذا ليس حكرًا على هولندا، بل هو خطأ عام يكتنف جهود مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم. لذا، فإن الخطوات المتخذة ضد التطرف في هولندا ليست غير وقائية فحسب، بل تأتي بنتائج عكسية لأنها تشجع على المزيد من التطرف.
الخلاصة
ختامًا، توضِّح الدراسة أن هناك مشكلة أساسية في نهج الدولة في مكافحة التطرف. وتعزو أسباب انتشار السلفيين المتطرفين لجملةٍ من العوامل، بما في ذلك السهولة والسرية المرتبطة بأساليب التجنيد عبر الإنترنت، وتنامي التعصب المجتمعي، وسوء الفهم للسلفية، والإسلام بشكل عام، وشعور المسلمين الهولنديين بالتهميش وعدم الانتماء، والأمننة المكثفة التي تولّد شعورًا بالخوف والهلع داخل المجتمعات المسلمة من الظهور بمظهر “الالتزام الشديد” بالدين الإسلامي.
ينبغي أن يشمل النهج الأكثر فعالية لمكافحة الإرهاب عنصر الإدماج الذي يستهدف منع المصادر الرئيسة للتطرف، بدلًا من مجرد التعامل مع المتطرفين، بعد ارتكابهم بالفعل للجرائم أو تهديد المجتمع. ومن الطرق الأساسية لتحقيق ذلك العمل، جنبًا إلى جنب مع المجتمعات المسلمة، ومساعدتها على تحديد مصادر التطرف ومجابهتها، قبل أن تؤتي ثمارها.