طرأ عامل جديد يجعل ملف النقل المشترك أكثر أولوية. إذ سجّل سعر صفيحة البنزين ارتفاعاً كبيراً ليتجاوز 300 ألف ليرة. النقل يمثّل ثقلاً أساسياً، إلا أن المسؤولين السياسيين يرون أن «الدولة» تمثّل مطيّة لتأمين وحماية مصالح فئة قليلة من الناس، في مقابل التآمر على عامة السكان وحرمانهم من أبسط حقوقهم.
انطلاقاً من أن النقل «حاجة» و«حقّ»، فإن مقاربة السلطة بعيدة كل البعد عما يجب أن يكون عليه هذا الحق. تطوير نظام نقل مشترك بكلفة منخفضة للناس، يعدّ مكوّناً رئيسياً لأي استراتيجية حماية اجتماعية مفترضة. إنما على أرض الواقع، «تستسهل» الحكومة التوقّف عن دعم استيراد البنزين من دون دراسة الانعكاسات على حاجات المجتمع والدورة الاقتصادية. فارتدادات الارتفاع الكبير في الأسعار، المُرشّح إلى مزيد من التضخّم، ستؤثّر على كلّ الحلقة الإنتاجية في البلد. ستصيب هذه الارتدادات أصحاب المبادرات الفردية والأعمال الصغيرة والمتوسطة. بعضهم أقفل مصالحه. كما أن المؤسسات العامة والخاصة اعتمدت التقنين في أيام العمل حتى لا يتكبّد الموظف كلفة انتقال تفوق راتبه الأساسي… ومع الأيام، ستظهر آثار أكثر عُمقاً في المجتمع، كالزيادة في نسبة الفقر المدقع الذي يقيس مدى وصول السكان للحاجات الأساسية مثل التعليم، الصحة، الخدمات العامة، السكن، النقل وسواها. في عام 2021 ارتفعت نسبة الفقر المدقع بحسب «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)» إلى 82% مقارنة مع 42% في 2019.
وبدلاً من أن تكون مقاربة اتحادات ونقابات النقل البرّي واضحة تجاه إعادة تفعيل النقل المشترك، إلا أنها تعاملت مع الأمر من زاوية فئوية تتعلق بالكلفة المترتبة على سائقي التاكسي. فهؤلاء أصيبوا بفعل تسعير صفيحة البنزين على أساس سعر الصرف في السوق الحرّة، كما أصيبت الغالبية الفقيرة من المقيمين في لبنان. لكن مصالح الاتحادات تتماهى مع مصالح قوى السلطة في استبدال أي خطّة للنقل المشترك بمصلحة فئوية تتضمن دعم سائقي السيارات العمومية. هكذا عُلّق الإضراب الذي كان مقرراً يوم الأربعاء الماضي بعد تسوية تتعلق بالدعم. تتضمن دعم السائقين بصفائح بنزين ومازوت بأسعار مُخفّضة، وبمنحهم 500 ألف ليرة شهرياً، ودمجهم ضمن الفئات المستفيدة من البطاقة التمويلية.

هكذا أصبحت السلطة تضرب الفقراء بالفقراء. سائقو السيارات العمومية في مواجهة أصحاب المداخيل المتوسطة والمنخفضة وسائر الفقراء العالقين مع وسيلة تنقّل حصلوا عليها بقروض مصرفية، إلا أن كلفة تشغيلها وصيانتها باتت باهظة.
ورغم أن وزير النقل والأشغال العامة علي حمية يوافق على أهمية النقل المشترك، إلا أنه أيضاً يوافق على أن تعامل الدولة معه بقي هامشياً. وفي اتصال مع «الأخبار» يقول حمية إنّه عَرض مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، والمدير الإقليمي لدائرة المشرق في مجموعة البنك الدولي ساروج كومارجا «العمل على استراتيجية النقل وخطوات بعيدة المدى»، طالباً منهما تبنّي النقل العام «للتمكّن من إطلاق مشروع شراء الباصات وإنشاء محطات الركاب في بيروت الكبرى، وربط المشروع مع المناطق اللبنانية كافة». برأيه، لا يمكن التغافل عن كلفة انتقال الفرد من عكار إلى بيروت بـ 100 ألف ليرة مقارنة مع 6 آلاف ليرة سابقاً. وحين لا يصل موظّف القطاع العام إلى مكتبه بسبب هذه الكلفة الهائلة «فإن هذا جزء من تفكيك الدولة». بالنسبة إلى حمية، القصة عالقة على غياب مصدر التمويل للمشروع، «فنحن إما أن نلجأ إلى أموال السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي، أو إلى قرض البنك الدولي، أو إلى هبات». ففي ما خصّ أموال السحب الخاصة، من غير المفهوم سبب عدم رغبة الحكومة في استخدامها لمواجهة حالة الطوارئ، أما قرض البنك الدولي بقيمة 295 مليون دولار، وكان مخصصاً لتمويل مشروع الباص السريع، فلم يبق منه في وزارة الأشغال سوى 40 مليون دولار، بعدما حُوّلت منه 255 مليون دولار لتمويل البطاقة التمويلية. وفي موضوع الهبات، لم تُبدِ أي جهة حماستها لذلك، ولم تُقدّم السفيرة الفرنسية آن غريو جواباً لحميّة بشأن تقديم بلادها باصات للدولة اللبنانية.