بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا أعتقد أنها ظاهرة سليمة أو سياسة حكيمة، ولا أظنها إدارة صحيحة أو مساعي صائبة، ولا أرى أن شعبنا يقبل بها أو يشجع عليها، أو يريدها ويتطلع إليها، أو أنه يعتبرها إنجازاً وطنياً ومكسباً فلسطينياً، بل يراها وأراها، سياسة خاطئة تماماً، وإدارة فاشلة كلياً، وسراباً يخدع، وبريقاً يغش، فهي تضر بالشعب الفلسطيني، وتنعكس سلباً على قضيته، ولا تعود عليه بالنفع العام، وإن حققت منافع ذاتية أو مكاسب حزبية، فهي في أغلبها آنية ومؤقتة، وقلَّ أن تثبت أو تدوم، أو تستمر وتحترم، بل سرعان ما تنتهي وتزول، ويتم التحلل منها والانقلاب عليها، لذا ينبغي الإقلاع عنها والتوقف عن الاستمرار فيها، والعمل على تصحيحها وتصويبها، إن كنا نريد صالح شعبنا وما يخدم قضيتنا.
عنيتُ بما قدمتُ وبينتُ، الزياراتِ الخاصة التي تقوم بها قيادة الفصائل الفلسطينية، بصورةٍ منفردةٍ وأحاديةٍ، إلى الدول وعواصم القرار الدولية والإقليمية، واللقاءات التي تعقدها مع قادة ومسؤولي الدول المختلفة، السياسية والأمنية، والتي تتم عادةً بوفودٍ مستقلةٍ، تمثل كل تنظيمٍ بعينه، فلا يشاركه الزيارة أو اللقاء أحد، ولا يتم التنسيق بينه وبين القوى والأحزاب والحركات الأخرى، بل على العكس من ذلك، غالباً ما يتم التعمية عن اللقاءات، وتغييب المعلومات، وإخفاء الملفات التي فتحت، والقضايا التي أثيرت، وكأن كل فصيلٍ مستقلٌ في رأيه، ومتفردٌ في قضيته، وحاكمٌ أو ضابطٌ في حركته، فلا يجوز إطلاع أو مشاركة شركاء النضال والمقاومة على الحوارات التي تتم، والمفاوضات التي تجري.
لا تظنَنَّ حركةٌ وجبهةٌ، أو تنظيمٌ وحزبٌ، أن الحراك المنفرد دليل قوةٍ وتميز، وعلامة تفوقٍ وغلبةٍ، فالدول التي تستضيفهم، وتلك التي توجه دعواتٍ لهم، أو تبدي استعدادها لاستقبالهم والحوار معهم، تحرص على اللقاء بهم فرادى، والاجتماع بهم متفرقين، فهي تعلم أن الحوار معهم مجتمعين صعبٌ، والتفاهم معهم موحدين مستحيلٌ، وإرغامهم أو الضغط عليهم وهم على قلب رجلٍ واحدٍ أمرٌ غير ممكنٍ، وهذا الأمر لا يروق لها، أو لا ينسجم مع سياساتها، ولا يحقق الأهداف المرجوة من الدعوة واللقاء، ولهذا نرى الدول والحكومات، توجه إلى الفصائل الفلسطينية والتنظيمات، دعواتٍ فرديةٍ، وتحرص على أن تكون متباعدة فلا يتحقق اللقاء الهامشي بينهم، أو التنسيق العرضي فيما بينهم، فضلاً عن أنها قد تدعو البعض وتهمل أو تعرض صفحاً عن آخرين فلا تدعوهم ولا تهتم بهم.
لعل قادة القوى والفصائل كلهم يدركون هذه الحقائق، ويعلمون جيداً أن الدول والحكومات تحاول الاستفراد ببعضهم، والضغط عليهم وفرض الشروط التي تراها، والقناعات التي تريدها، وبعضها تحاول الوقيعة بينهم، وخلق الاختلافات وتعميقها، وفرض الوقائع الجديدة وتمريرها، والاستفادة من التناقضات القائمة ومضاعفتها، وفي الوقت نفسه تعجز القوى والفصائل عن تحقيق ما تريد، أو تثبيت ما ترغب، الأمر الذي يدفعها من حينٍ إلى آخر إلى تجديد سيمفونية الحوار نفسها، والعودة إلى نقطة البدء والمربعات الأولى، وتكرار الجولات والزيارات، التي لا تفضي إلى تحسينٍ أو إنجازٍ.
إذا كان من المتعذر على طرفي الانقسام الوطني الفلسطيني، رأبُ الصدعِ وفرض المصالحة وإنهاء الانقسام، وتشكيل وفودٍ مشتركةٍ، فليس أقل من أن يتحد كل فريقٍ مع ذاته، وينسجم مع نفسه، ويوحد وفوده الزائرة، ولجانه المحاورة، فلا تقع زياراتٌ منفردةٌ، ولا تجري حواراتٌ ثنائية، أو لقاءات أحادية، فهذا أدعى إلى الاحترام والتقدير، وأقرب إلى التوفيق والنجاح، وأضمن من الانزلاق والضياع، وأكثر فرصةً لفرض الشروط واحترام الآراء، والالتزام بالشروط والقبول بالطلبات، فضلاً عن أن هذا الشكل من التنسيق الداخلي والتنظيم الوطني، يحصن القضية، ويمنع التنازل والانهيار، ويحقق مصالح الشعب أو يرضي رغباتهم، ويستجلب رضاهم ومباركتهم، ويشعرهم بحكمة قيادتهم وعقلانية حركاتهم.
دائماً يوجد في الساحة الفلسطينية تنظيمٌ قائدٌ، وفصيلٌ كبيرٌ، وحركةٌ تتصدر المشهد وتقود المرحلة، وتتقدم على غيرها بتضحياتها وعملياتها، ومقاومتها ونضالها، وصمودها وثباتها، وقوتها وتنظيمها، وانتشارها والتفاف الجماهير حولها، فتتحمل المسؤولية الكبرى، وتلتفُ حولها القوى الأخرى، ويصبح لزاماً عليها ضبط الأداء وتصحيح المسار، وتفعيل التنسيق، وتحقيق التكامل بين جميع القوى الوطنية، التي تؤمن ببرنامجها، وتشترك وإياها في الرؤية السياسية والمشروع الوطني، وإلا فإن أصحاب المشاريع الأخرى، ممن ينافسون على البرنامج، أو يخططون لرؤية، قد يستغلون التقصير والإهمال، وينتهزون الغضب والعتب، ويقدمون البديل ويعرضون المشاركة، وهو ما يستقيم مع الرؤية الوطنية، التي تتطلع إلى الوحدة والاتفاق.
يجب على القوة الرائدة والفصيل الأكبر أن تراعى القوى الصغرى، التي كان لها وما زال دورٌ في المقاومة، وسهمٌ في التعبئة والصمود، فلا تتخلى عنها ولا تتركها، ولا تهمل دورها ولا تحتقر صوتها، ولا تجحد تاريخها ولا تنس ماضيها، بل يجب عليها أن تحرص على وجودها ومشاركتها، وتفرض حضورها ومساهمتها، ولا تقبل بأن تقصى وتحرم، وتمنع من المشاركة والتمثيل، ولعل حضورهم اللقاءات ومشاركتهم الزيارات، يزيد في قوة التمثيل الفلسطيني، ويرفع من قدر ومقام القوى المقاومة، ويجعلها على مستوى المسؤولية، عقلاً وحكمةً وإدارةً.
لن يقلل من قدر القوى الكبيرة أو يحط من شأنها، اصطحابُ غيرها والتنسيق معها، ولن يضعف دورها ولن يبهت صورتها وجود ممثلي القوى الأخرى إلى جانبها، ولن يلغي الخصوصية التي تحرص عليها، ولن يمنع اللقاءات الجانبية والثنائية التي تتطلع إليها، ولن تقوى الدول على منعها، ولن تجبرها على الحضور وحدها، ولن تضع شروطاً على تسمية وفودها، بل إن إصرارها على أن تكون الوفود مشتركة، والبرامج موحدة، واللغة واحدة، والهموم جامعة، والأهداف منسقة، والغايات متفق عليها، يجعل منهم رواداً مقدرين، وممثلين عن الشعب محترمين.
زر الذهاب إلى الأعلى