على أن هذه الجهود لم تبدأ بقرار تصنيف ستّ منظمات مدنية فلسطينية «إرهابية»، بل هي جهود متقادمة ترتفع حدّتها وتنخفض، بحسب الظروف والمتغيّرات السياسية والأمنية. وفي هذا السياق، أشار مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية قبل أيام قليلة، إلى أنه مع وصول حزب «الليكود» اليميني المتطرّف إلى السلطة في الكيان عام 2009، عمد مع حلفائه إلى «تمرير سلسلة من القوانين التي هدفت إلى ملاحقة منظّمات حقوق الإنسان والتدقيق في عملها، والمموّلين لها». وبعد فترة قصيرة، «وجدت الحكومة (الإسرائيلية) طُرقاً إبداعيّة لاستفزاز منظّمات حقوق الإنسان داخل إسرائيل وفلسطين، ثمّ تبعت ذلك جهود لتدويل الهجمات (عبر إنشاء تحالفات مع منظّمات وجهات دولية تخدم الهدف الإسرائيلي نفسه). وأنشأت الحكومة وزارة خاصّة لمتابعة تلك الجهود، وتمّت تسميتها وزارة الشؤون الاستراتيجية، ودُعمت بميزانية ضخمة عام 2015، ولا تزال الكثير من أنشطتها سرّية حتى اليوم». والجدير ذكره، هنا، أن يوسي كوبرفاسر، رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً، كان مديراً عاماً للوزارة المذكورة بين عامَي 2011 و2016، وهو ما يدلّل على طبيعة عملها، ومدى ارتباطها بجوانب أمنية واستخباراتية. إلّا أنه بعدما بدأت المعلومات حول «الشؤون الاستراتيجية» وجهودها الدولية تتسرّب، تمّ إغلاقها وضمّها إلى وزارة الشؤون الخارجية، قبل أن يعيد الإجراء الإسرائيلي الأخير التذكير بها، والتأكيد أن جوهر عملها لا يزال قائماً، وإن تحت عناوين مختلفة.
نقطة خلافية مع واشنطن
من جهة أخرى، أدّى القرار الإسرائيلي بخصوص المنظّمات الستّ إلى نشوء نقطة خلافية جديدة بين تل أبيب وواشنطن، تضاف إلى نقاط أخرى تتزايد بشكل متسارع في وقت قصير، منذ تشكيل حكومة نفتالي بينت – يائير لبيد الحالية، وآخرها أمس، حيث ضمّت واشنطن مجموعة «NSO» الإسرائيلية التي طوّرت برامج «بيغاسوس» للتجسّس، وشركة «كانديرو» الإسرائيلية، إلى قائمة الشركات المحظورة لأنها تشكّل «تهديداً للأمن القومي الأميركي». دفع ذلك بعض المعلّقين الإسرائيليين إلى التساؤل حول جدوى التحرّك الإسرائيلي تجاه المنظّمات المدنية الفلسطينية، حتى يستحقّ أن يُدفع ثمنه أزمةً إضافية مع إدارة جو بايدن، في وقت أكثر ما يحتاجه الإسرائيليون هو الدعم الأميركي والدولي في الخيارات الاستراتيجية، ما يتطلّب بيئة ديبلوماسية «سليمة ونظيفة». ولهذا، دفعت تل أبيب بموفديها إلى واشنطن لتبرير القرار وإقناع الأميركيين به، وتبريد الأجواء في ما بينهم.
أدّى القرار الإسرائيلي بخصوص المنظّمات الستّ إلى نشوء نقطة خلافية جديدة بين تل أبيب وواشنطن
وبحسب تقرير نُشر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، فإن «تل أبيب لم تعتقد أن الإعلان سيسبّب أزمة في العلاقات مع الولايات المتحدة، ويرجع ذلك أساساً إلى حقيقة أن واشنطن لا علاقة لها حقاً بهذه المنظمات ولا تموّلها»، لكن الأزمة وقعت بالفعل. وبحسب الصحيفة، فإن التقديرات تشير إلى أن «الموقف الأميركي نابع من النقد المتزايد في أوساط معسكر اليسار التقدّمي في الحزب الديموقراطي لإسرائيل، حيث أثارت الخطوة الإسرائيلية ردود فعل قاسية بين أعضاء الكونغرس الديموقراطيين». وأشارت الصحيفة إلى أن بيتي ماكولوم، أبرز أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس، والتي «وقّعت (سابقاً) على مشروع قانون لتخفيض المساعدات العسكرية لإسرائيل، بسبب إساءة معاملة الأطفال والشباب الفلسطينيين»، دانت في بيان رسمي القرار الإسرائيلي، عادّةً إياه «محاولة لإسكات انتقاد حقوق الفلسطينيين». وحثّت ماكولوم الرئيس جو بايدن على العمل على «إلغاء القرار على الفور، وإعادة هذه المنظّمات حتى تتمكّن من العمل». ولفتت «يديعوت أحرونوت» إلى أن «التوتّر الحاصل لم يأتِ من فراغ، فهناك إحباطٌ متزايد في واشنطن من الحكومة الإسرائيلية الفتيّة» بقيادة بينت، بخاصّة بعد قرار حكومة العدو متابعة البناء في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلّة.
ولم يقتصر الاعتراض على بعض الديموقراطيين في واشنطن، بل امتدّ حتى إلى داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها، حيث عرّضت الخطوة وزير الأمن بني غانتس، «لانتقادات شديدة من الجناح اليساري الإسرائيلي الذي اتّهمه بإلحاق الضرر الكبير بإسرائيل»، بحسب تقرير آخر نشرته «يديعوت أحرونوت». وقالت الصحيفة إن «تحالفاً مكوّناً من ثمانية أحزاب سياسية يسارية، ويضمّ عدداً من السياسيين، وجّهوا انتقاداتهم لوزير الأمن بسبب القرار». وكان وزير الصحة الإسرائيلي وزعيم حزب «ميرتس»، نيتسان هورويتز، قد حذّر من أن «إسرائيل كقوّة عسكرية مُحتلّة، يجب أن تكون حذرة للغاية في فرض عقوبات على المنظّمات المدنية الفلسطينية، لما لذلك من عواقب سياسية وديبلوماسية». واعتبرت وزيرة النقل وزعيمة حزب «العمل»، ميراف ميخائيلي، بدورها، أن الطريقة التي تمّ الإعلان بها «ألحقت ضرراً كبيراً بإسرائيل، وبالعلاقة بأعظم وأهمّ أصدقائنا».