من غير المنطقي والصائب القول ان لبنان يمكنه ان يستمر بشكل طبيعي من دون السعودية، فالاسباب التي تربط لبنان بهذا البلد العربي كثيرة، وغيرمحصورة فقط بالشقّ المالي والاقتصادي، بل بالقيمة المعنوية التي تكتسبها السعودية من الناحية الدينيّة، وفي الخليج بشكل عام ايضاً. وواهم من يعتقد انه بامكان شريحة مهمة من اللبنانيين (اي السنّة) التخلّي عما تعنيه السعودية بالنسبة اليهم، وعن تأثيرها الديني والمالي والسياسي عليهم. ولكن… يجب النظر في المقابل من وجهة نظر أخرى، فالسعودية استفادت وتستفيد من لبنان، ليس من الناجية الاقتصاديّة والماليّة بالطبع، بل من حيث اعتباره ورقة في يدها وصاحبة النفوذ الكبير فيه، وهو ما كان واضحاً على مرّ تاريخ لبنان الحديث، حيث كانت لاعباً اساسياً على طاولته بحيث لم يكن يحصل أيشيء مهم في لبنان الا بعلم وبمشاركة سعوديّة. اللافت في السنوات القليلة الماضية، ان النفوذ السعودي في لبنان بدأ يتراجع بفعل السياسة التي اعتمدها ولي العهد الحالي الامير محمد بن سلمان، والتي أقلقت الجميع في الداخل السعودي، وفي المنطقة، والعالم ايضاً، فهو أحدث “انقلاباً” في المملكة، كما أنه للمرة الاولى حصل انقاق كبير فيمجلس التعاون الخليجي وفرض حصاراً على دولة هي عضو فيه، كما انه اثار مشاكل عديدة مع العالم بعد مقتل الصحافي جمال الخاشقحي في القنصليّة السعوديّة في تركيا… صحيح أن بن سلمان نجح في اجتياز هذه المعوقات بشكل او بآخر، إلا أن تداعيات هذه الافعال بقيت في الاذهان، واثّرت على السياسة العامة للسعودية، وكان احد نتائجها تراجع النفوذ الكبير لها في لبنان، ولم يساعدها بطبيعة الحال إحداث خلاف عميق مع النائب سعد الحريري الذي كان القطب السنّي الابرز في لبنان، فعمدت الى إضعافه على حساب قوى سنّية اخرى.
اليوم، عادت السعودية الى الساحة اللبنانية بقوة، وعلّت السقف الى اقصى حدّ ممكن مستغلة تصريحات كان أدلى بها الاعلامي جورج قرداحي قبل تسلّمه منصباً وزارياً في الحكومة، واعتبر فيها أنّ السعودية والامارات اعتديا على الشعب اليمني. صعّدت الرياض اجراءاتها وقطعت طريق السفراء واغلقت بوابة التبادل التجاري، ولو قدّر لها ان تطرد الجالية اللبنانية هناك (علماً انهم يعملون لقاء لقمة عيشهم وليسوا بلاجئين) لكانت فعلت، انما كانت متخوّفة حتماً من ردود الفعل الدولية. واذا كان من الطبيعي ان تنضمّ الامارات الى التصعيد كونها معنيّة بالكلام، والبحرين كونها الاخت الصغرى للسعوديّة، فقد فاجأ الموقف الكويتي الكثيرين، حيث اختارت عدم الالتحاق بقطر وسلطنة عمان وتمايزها معهما، بل عمدت الى تبنّي الخطوة السعوديّة، في بادرة رأى العديد من المراقبين انها لم تكن لتحصل لو بقي الامير الراحل صباح الاحمد الجابر الصباح على قيد الحياة، كونه كان ينحو دائماً الى تقريب وجهات النظر بدل القطيعة.
هذا التصعيد السعودي الكبير، اعتبره الكثيرون على أنّه “صرخة عالية” الى من يعنيهم الامر، وبالتحديد الولايات المتّحدة الاميركيّة وفرنسا، أنّ الرياض حاجة لبنانيّة، وانها قررت استعادة نفوذها المفقود منذ فترة في هذا البلد، وان على القوى الكبرى ايجاد الحلّ اللازم لهذه المسألة، لأنّ السعودية ليس في وارد التفريط بالورقة اللبنانية بعد خسارة نفوذها الكبير في اليمن، وتراجع قوتها في الخليج بعد نجاح قطر في تحدّيها لها، وعدم قدرتها على فرض نفسها في العراق. ويعلم الجميع أن الإهتمام الدولي بلبنان لم ينقطع، وانه ملعب دائم للساحات الخارجية، من هنا تكمن اهميته. هذا الكلام ليس من باب “التنبؤ” او “التبصير” لا سمح الله، بل هو مرتكز الى اقوال ومواقف صدرت اخيراً. فكيف يمكن تفسير ما جاء على لسان الخارجيّة السعودية ووزيرها من أن أصل المشكلة في لبنان هي حزب الله فيما الحزب لم يغيّر سياسته ومواقفه واجراءاته منذ سنوات، فهو لم يوقف تدخّلاته في اليمن، ولم يصعّد ضد السعودية في الآونة الاخيرة، فما الّذي حدث كي يستأهل ردّة الفعل العالية من الرياض؟!.
إن كلمة السر تكمن في ما قاله وزير الخارجيّة السعودي، وما قيل في اجتماع خليّة الازمة الوزاريّة اللبنانيّة، والقاسم المشترك بينهما هو واشنطن. فالسعودية تجري محادثات مع الادارة الاميركية حول لبنان، فيما طلبت بيروت من الاميركيين والفرنسيين التدخّل في المسألة، وهذا إن دلّ على شيء، فعلى أنّ السعودية تصرخ عالياً و”تتدلّل” ليُسمع صوتها بأنّها تريد من يحاورها بشأن لبنان وعودة نفوذها فيه الى سابق عهده، خصوصاً في ظلّ موعد الانتخابات النّيابية التي يصرّ العالم على إجرائها السنة المقبلة، فهل من يسمع؟!.