صلاح سلام -اللواء
تراكمات السياسات الخارجية المتعارضة مع القرارات العربية، واستمرار حملات الهجاء والتجني على قيادات دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة المملكة العربية السعودية، كان لا بد أن تُؤدي يوماً إلى القطيعة الديبلوماسية والإقتصادية بين لبنان وعمقه الإستراتيجي في المنطقة العربية.
جاء كلام الوزير جورج قرداحي عن حرب اليمن، المُسيء لمجموعة دول التحالف بقيادة السعودية، ليُشعل شرارة القطيعة بين لبنان والدول الخليجية، التي صبرت قياداتها طويلاً على الإساءات المتكررة والمستمرة القادمة من لبنان، عبر أطراف المحور الإيراني، وخاصة حزب الله، المتهم بالمشاركة في الحرب اليمنية، عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، فكان أن إنفجرت أزمة سحب السفراء، ودخل لبنان في عزلة، هي الأولى في تاريخه الإستقلالي، عن دول الخليج العربي، ضارباً بمصالحه الوطنية عرض الحائط، وغير عابئ بحساسية أوضاع مئات الألوف من اللبنانيين العاملين في منطقة الخليج.
وعوض أن يُبادر وزير الإعلام، والمفترض به أن يكون خبيراً بمخاطبة الرأي العام، «ويُكحّلها»، كما يقول المثل الشعبي، ويُخفف من وطأة تصريحاته، ويعتذر عن أية إساءة غير مقصودة لحقت بدول التحالف والمملكة السعودية، عمد إلى نسف كل محاولات التهدئة وتطويق مضاعفات كلامه، عبر تمسكه بمضمون ما أدلى به في برنامج تلفزيوني إنتهى بنقاشات خلافية حادة بينه وبين المشاركين في الحلقة، إحتجاجاً على طريقة أدائه في الحوار مع مقدمي البرنامج.
وفيما كان عميد السلك الديبلوماسي العربي سفير الكويت في بيروت عبدالعال القناعي، يلتقي كبار المسؤولين و«ينصح» بإتخاذ إجراءات سريعة لتبريد الأجواء مع العواصم الخليجية، صدر بيان حزب الله الذي تضمن تصعيداً للموقف ضد السعودية ودول التحالف، ومشدداً على رفض إستقالة قرداحي أو إقالته، مهدداً بالإنسحاب من الحكومة.
بيان الحزب وضع نهاية لمساعي المعالجات الديبلوماسية الهادئة، وفتح أبواب الأزمة على مصراعيها، بعدما توقفت الإتصالات الداخلية بين أهل الحكم بحثاً عن صيغة تُرضي الأشقاء الخليجيين وتحفظ المصالح اللبنانية، كما أنهت فترة التريث الخليجية، بإنتظار الخطوات المناسبة التي كان الجانب اللبناني قد وعد بإتخاذها.
وما هي إلا ساعات حتى كرّت مسبحة التطورات الدراماتيكية، وتنفيذ قرارات سحب السفراء الخليجيين من بيروت وطرد السفراء اللبنانيين من العواصم الخليجية، معلنة دخول وطن الأرز في دوامة أزمة جديدة، تُضاف إلى مهاوي الأزمات التي تُمسك بخناق البلاد والعباد.
أصبح واضحاً أن هذه المشكلة المتفجرة تجاوزت بأبعادها ومضاعفاتها كلام الوزير قرداحي، لتصل إلى خلفيات أجواء التأزم التي تهيمن، منذ فترة ليست قصيرة، على علاقات لبنان مع دول مجلس التعاون التي تخوض مواجهة مصيرية مع المحور الإيراني وأدواته في المنطقة، والتي وضعت بيروت في خانة المحور الإيراني، وتسمية الحكومات اللبنانية المتعاقبة في العقد الأخير «بحكومات حزب الله، المهيمن على مفاصل القرار السياسي في البلد».
من الخطأ الجسيم التهاون في معالجة الأزمة مع الدول الخليجية من قبل لبنان، دولة وأطرافاً سياسية وحزبية، لأن المسألة من السخونة ما يزيد الوضع اللبناني تعقيداً، ويُفاقم الإنهيارات المتتالية، خاصة في حال لجأت بعض الأحزاب اللبنانية، لا سيما حزب الله، إلى تصعيد المواقف ضد السعودية، على غرار ما حصل مؤخراً بوصف الإرهاب الداعشي «بالإرهاب الوهابي»، والتطاول على الرموز القيادية.
لا تنفع التصريحات الهمايونية، ولا المزايدات الشعبوية الزاخرة بمفردات الكرامة والسيادة إلى آخر المعزوفات المعروفة، في تنفيس الإحتقان الحالي في العلاقات المتوترة مع الدول الخليجية، بقدر ما نحتاج إلى الكثير من الحكمة، والإرتفاع فوق الجراح، لإستعادة المبادرة في حماية المصالح الوطنية العليا، التي تتطلب من الجميع تعليق العمل بأجنداتهم الخارجية، ووضع مصلحة البلد وأهله فوق أي إعتبار آخر، حتى نتمكن من الخروج من هذه الدوامة الخطرة، التي تهدد ما تبقى من آمال بالإنقاذ ووقف الانحدارات المستمرة.
التصعيد الكلامي من جانب حزب الله أو حلفائه، سيقابل بتصعيد الخطوات العملية من جانب المملكة ودول مجلس لتعاون، التي مازالت تحتفظ بكثير من الأوراق في الأزمة مع لبنان، الذي يفتقد إلى أبسط القدرات لمواجهة تحديات ومضاعفات مشكلة بحجم القطيعة مع دول كانت دائماً في طليعة الداعمين للبلد في أزماته الإقتصادية، وفي لملمة جراحه في الحروب مع العدو الإسرائيلي، فضلاً عن المساهمات السخية في تمويل المشاريع الإنمائية الضخمة، من مستشفيات ومجمعات مدرسية وأوتوسترادات، ومرافق حيوية أخرى.
ليس المطلوب خليجياً ذهاب هذه الحكومة، فالمسألة تتعلق بالمبادئ الأساسية التي تتحكم بمواقف الدول الخليجية، والتي يمكن إختصارها بالنقاط التالية: تحرير قرار الدولة من هيمنة حزب الله. إعادة لبنان إلى الصف العربي. إطلاق ورشة الإصلاحات لفتح طريق المساعدات.
أما الحكومة الحالية فهي بحكم المشلولة منذ توقف جلسات مجلس الوزراء عن الإنعقاد إثر الصدام بين رئيس الجمهورية والوزير مرتضى حول الإشكالات المحيطة بتحقيقات القاضي بيطار في إنفجار مرفأ بيروت.
لبنان أمام أزمة بالغة الحساسية والتعقيد، وتتطلب الكثير من الحكمة والتروي والتضامن لبلوغ شاطئ الحلول بأمان، وبأقل حدّ ممكن من الخسائر.
فهل لبنان قادر على حسم خياراته وتقرير خطواته؟