لا تقتصر أهمية العلاقات التجارية بين كل من لبنان والمملكة العربية السعودية على أن الميزان التجاري شهد في العام 2020 فائضاً لمصلحة لبنان بقيمة 35 مليون دولار، إنما على نوعية الصادرات وتأثيرها الايجابي على الاقتصاد. ففي الوقت الذي استأثرت فيه سويسرا على “واردات بقيمة مليار دولار، تشكل 30 في المئة من مجمل الصادارات اللبنانية في العام 2020″، بحسب تقرير التجارة الخارجية لغرفة التجارة والزراعة والصناعة في بيروت وجبل لبنان، لم تتجاوز الواردات السعودية من لبنان 217 مليون دولار، شكلت 6 في المئة فقط من مجمل الصادرات. إلا أن الفرق بنوعية الصادارت كبير جداً، فالصادارت المرتفعة جداً إلى سويسرا تكاد تكون محصورة بالمعادن الثمينة.
وترتبط زيادتها مؤخراً بحسب بعض التحليلات بـ”إخراج المودعين ما يملكون من ذهب في القطاع المصرفي على شكل حلي ومجوهرات، أو سبائك وليرات، وارسالها إلى الجهة الأكثر أماناً. هذا طبعاً، إلى جانب دور لبنان الوسيط في إعادة تصدير الذهب والمعادن النفيسة القادمة من جنوب أفريقيا. في المقابل يصدر لبنان إلى السعودية الخضار والفواكه والمنتجات الصناعية، وتحديداً الغذائية منها. وعليه فان التصدير الكبير على سويسرا لا يفيد القطاعات الانتاجية ولا يخلق قيمة مضافة في الاقتصاد. ذلك على عكس التصدير إلى الدول العربية الذي تستحوذ كل من السعودية والامارات والكويت على واردات من لبنان بقيمة 748 مليون دولار تشكل حوالى 20 في المئة من مجمل الصادارت التي تقدر بـ 3.5 مليارات دولار في العام 2020.
إنهيار الاقتصاد
تستحوذ دول الخليج العربي بشكل عام على نحو 50 في المئة من مجمل الصادارت الصناعية اللبنانية. و”في حال تعميم المقاطعة ومنع الاستيراد من لبنان على بقية الدول بعد السعودية، قد نشهد انهياراً تاماً وفورياً للصناعة، ومن بعدها الاقتصاد”، يقول الصناعي بول أبي نصر، “ذلك أنه من المستحيل على القطاعات الانتاجية، ولا سيما الصناعية منها، تحمّل اقتطاع نصف قيمة صادراتها إلى الخارج. خصوصاً مع تدهور السوق المحلي، واضمحلاله. وبرأيه “إن كان هناك من قطاعات صامدة في لبنان فبسبب التصدير”.
فقدان الثقة
العلاقات بين لبنان والسعودية بشكل خاص، ومع بقية الدول الخليجية بشكل عام، شهدت الكثير من الطلعات والنزلات خلال فترة زمنية قصيرة جداً. ففي نيسان الفائت أوقفت السعودية استيراد الخضار والفواكه من لبنان على خلفية تهريب حبوب الكبتاغون المخدّرِة مخبأة في شحنة رمان. وقبل أن يستوعب لبنان هذه الضربة القاسية، وفي خضم اتخاذه إجراءات أمنية لمنع تكرارها، خرج وزير الخارجية آنذاك في حكومة تصريف الاعمال شربل وهبة بتصريح مهين بحق الدولة الخليجية. الأمر الذي استدعى سحب السفراء والمقاطعة التي لم تنته إلا باستقالة الوزير. اليوم يتكرر الأمر نفسه، إنما مع ارتدادات أكثر خطورة. فـ”هذا النمط بالتعاطي الذي ينتهجه لبنان يُفقد الشركات المستوردة الثقة به، ويدفعها للبحث عن أسواق أكثر استقراراً لا تتعطل فيها سلاسل التوريد دورياً”، يقول أبي نصر، فـ”المَصْدر الذي يُمنع الإستيراد منه 3 مرات في ظرف أقل من 7 أشهر لا يُعتبر مصدراً موثوقاً. وتنعدم مصلحة المستورد في التعامل معه”. والأسوأ من هذا كله، أنه ليس في يد قوى الإنتاج أي ضمانات ممكن أن يقدموها لشركائهم في الخارج على عدم توقف التوريد في المستقبل في حال إصلاح العلاقة بسبب الاختلال السياسي”.
العمق الطبيعي
في الوقت الذي يلوم فيه البعض القطاعات الانتاجية على تقصيرها في فتح أسواق جديدة خلال السنوات الماضية واستمرارها في وضع الإنتاج رهن العلاقات غير المستقرة مع دول الجوار، يرى أبي نصر أن “دول المشرق العربي، والخليج يشكلان السوق الطبيعي للبنان. فهذه الدول هي الأقرب جغرافياً، ويمكن الوصول إليها براً، وصناعاتنا تلائم أسواقها والعكس بالعكس، وفيها جالية لبنانية كبيرة. أما من الجهة الثانية فيلفت أبي نصر إلى أن “الدولة لم تبرم إتفاقية مرضية واحدة خلال عقود من الزمن”. كل الاتفاقيات كانت ضد مصلحة الصناعة. فالتصدير إلى تركيا محكوم بالحواجز الجمركية، وببعد المسافة وصعوبة المنافسة مع السوق الاوروبية. أما دول جنوب أميركا حيث تنتشر الدياسبورا اللبنانية بكثافة، فهي تحمي إنتاجها المحلي بشكل “وقح”.
حيث يترتب على التصدير إلى البرازيل مثلاً تكلفة تناهز 60 إلى 70 في المئة من قيمة الشحنة كبدل جمارك ونقل وغيرها. وفي ما خص دول المغرب العربي (الجزائر، تونس، المغرب) فتفرض رسوماً تفوق نسبتها 50 في المئة، وهي لا تعترف باتفاقيات التيسير العربية. من هنا فان الدول المفتوحة أمام الصادرات اللبنانية، باستثناء دول الجوار والخليج، هي أميركا الشمالية وأوروبا. بيد أن التصدير إلى دولهما محكوم بصعوبات كبيرة. فهي أسواق ناضجة، ولديها مورّدوها التاريخيون من الدول القريبة والتي يمكن أن يصلوا اليها براً وبسرعة كبيرة وبكلفة زهيدة. وذلك على عكس واقع التصدير البحري المكلف والبطيء من لبنان.
بالمنطق تستفيد البلدان من محيطها الجغرافي لتنمو وتتطور، إلا لبنان. فهو يسير عكس التيار ضارباً بعرض الحائط مصلحته الاقتصادية ليرضي كيانات سياسية لا يستفيد منها، بل توظفه في خدمة أجنداتها ومشاريعها الإقليمية.