بشار الأسد إذ يردح للجنة الدستورية
عمر قدور|المدن
لم تكن المرة الأولى التي يوجه فيها بشار الأسد كلاماً غير مباشر، أو شبه مباشر، يتعلق بأعمال اللجنة الدستورية، موجِّهاً الرسائل إلى المعنيين بتيسير أعمالها، أو المعنيين باستمرار وهْم وجودها وعملها، من الأصدقاء أو الخصوم. ذلك مع التنويه بسنوات من عدم الاعتراف بأعمال اللجنة انطلاقاً من عدم تسمية وفد الأسد إليها بالوفد الحكومي أو الرسمي، واستخدام تعبير “وفد وطني” فقط في سياق التشنيع على وفد المعارضة واتهامه باللاوطنية.
من مقر الأكاديمية العسكرية العليا في دمشق، قرر بشار الرد على ورقة المعارضة المقدّمة في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، والتي انتهت أعمالها بفشل ذريع قبل خمسة أيام من حديثه. واختيار الأكاديمية العسكرية فيه تلك النباهة الممزوجة بالنكاية، فورقة المعارضة المقدَّمة في اجتماعات الجولة السادسة للجنة كانت بعنوان “الجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات”، وتنص على كونها مؤسسات وطنية تلتزم الحياد السياسي، وتدعم السلطات المدنية وفق القانون مثلما تخضع هي للقانون ومعايير حقوق الإنسان.
ربما تلقى الأسد إشارات خارجية ما، فأوعز إلى وفده في اللجنة بنسف الجولة السادسة مع عدم تحديد موعد لجولة لاحقة، كي يبتز تنازلات إضافية لقاء عودته إلى المفاوضات. إلا أن الإشارات الخارجية في حال وجودها تلاقي رغبات أصيلة لديه لنسف فكرة المفاوضات من أساسها، وتلاقي غضباً أكثر أصالة له علاقة بمجرد تطرق ورقة المعارضة إلى الجيش والمخابرات، فهذا يعني المسّ بأساس سلطته القائمة على الجيش والمخابرات وتوابعهما من الشبيحة.
من منبر الأكاديمية العسكرية العليا، راح بشار يردح لوفد المعارضة في اللجنة الدستورية، الوفد الذي لا يعترف به رسمياً وسبق أن أطلق عليه مختلف أنواع البذاءات. الأهم في ما قاله إصراره على عدم فصل الجيش عن السياسة، بل تجاوزه ذلك إلى دور الجيش في الحياة العامة ككل، بما يعني “من دون إفصاح مباشر” عسكرة المجتمع السوري على النحو الحاصل بشدة الآن، وكما كان يحدث بطرق أقل عنفاً أو وضوحاً طوال عقود قبل اندلاع الثورة.
عمدت وكالة أنباء الأسد “سانا” إلى إجراء مونتاج للحديث، بحيث تبرز الرسالة المتعلقة بالجيش، وهي ذاتها في ما يتصل بالمخابرات والشبيحة. من ضمنها استشهد بشار بأن الجيش لم يكن بعيداً عن السياسة في أي وقت بعد الاستقلال، وهي إشارة لا بد أن تذكّر بالانقلابات التي قام بها الجيش على الديموقراطية الوليدة بعد انتهاء الانتداب الفرنسي، الديموقراطية التي أُجهز عليها بالوحدة مع مصر ثم بانقلاب البعث وأخيراً انقلاب حافظ الأسد. إنه بأثر رجعي يمتدح الدور الذي لعبه الجيش منذ نهاية الأربعينات، ويعتبره دوراً وطنياً، وبذلك لا يمتدح فحسب جيشه الحالي القائم على الولاء له، بل يعتبره امتداداً لما سبق مثنياً على عدائه المطلق للديموقراطية.
لدى مَن سلّم السيادة والقرار لموسكو وطهران متسع من الوقت ليردح على هواه، وبذلك يكشف عن أن ازدراءه المعلن كاذب تجاه المعارضة وتجاه اللجنة الدستورية، ولا يشبه بالطبع ازدراء آخرين يرون في أعمالها مسرحية سخيفة لتضييع الوقت وإهدار حقوق السوريين. لكن البعض من خطابه موجه أيضاً للخارج، الخارج متضمناً حتى بعض الأصدقاء الذين قد يقبلون بعملية تجميل بسيطة من خلال تعديلات تقرها اللجنة الدستورية.
من جهة حلفائه، قد يحتاج بشار بين الحين والآخر إلى تذكيرهم بأن استنجاده بهم، وإعطائهم مختلف أنواع الامتيازات، كان من أجل عدم تقديم أي تنازل مهما صغر للسوريين. هنا لبّ المقايضة الذي يتناقض مع مطالبات دولية له بتقديم أي تنازل للمعارضة، وباتخاذ خطوات لإبداء “حسن النوايا”. هنا أيضاً لا يكون “التصلب” في الموقف خارج الفهم الدولي والتواطؤ المبني عليه، إذ طالما رُوِّجت فرضية الانهيار التام والفوضى في حال فقد الأسد السيطرة على الجيش والمخابرات.
وفد الأسد في اللجنة الدستورية كان قد ذهب بعيداً بورقته التي تنص على مركزية السلطة في الجانب المدني كما هي الآن، والحد الوحيد المقبول هو قانون الإدارة المحلية المعمول به حالياً. ورغم أن الورقة موجّهة أساساً إلى الإدارة الذاتية الكردية “بالحديث عن رفض المشاريع الانفصالية أو شبه الانفصالية” فإن الإصرار على مركزية السلطة على النحو الحالي لا يخرج عن إطار جشعها إلى احتكار كل السلطات في البلد من أعلاها إلى أسفلها. عليه تكون مشاركة المعارضة المقبولة مستقبلاً، أو مشاركة مندوب عن التنظيمات الكردية، لا تتعدى مثلاً منصب وزير إدارة محلية شكلية، أي المنصب الذي يستطيع صف ضابط في المخابرات التنكيل بصاحبه.
ثمة فكرة سائدة مفادها لجوء بشار، عبر وفده في الدستورية، إلى التسويف والمماطلة. أداء الوفد يدعم شكلياً هذه الفكرة من خلال إظهار عدم الجدية، وتضييع النقاش في ما ليس من صميم أعمال اللجنة. أما القليل من التمحيص في ما تخلل الجولات الست فيكشف “أبعد مما سبق” عن تنكيل وفده بفكرة المفاوضات من أساسها، أي أن استهلاك الوقت وكسب المزيد منه ليسا ضمن اهتمامات الأسد، وهذا مجرد تأويل من جهات دولية أو إعلامية تريد إلباسه ثوب اللاعب الذي يستخدم تكتيكات في التفاوض، بينما هو في الواقع يرفض عملية التفاوض برمتها، وسيبقى على موقفه منها إلى النهاية، ولن يكون أداؤه في الجولات القادمة “إذا أُجبر على المشاركة” سوى للتأكيد على رفضه مبدأ التفاوض وما ينطوي عليه من إبداء مرونة أو تقديم قليل من التنازلات.
استكمالاً لاتهامه بالمماطلة، تروّج جهات دولية لعدم الأخذ بأقوال بشار، بما أن موسكو سترغمه “عندما تقتضي مصالحها” على تقديم تنازلات تبدأ بالعودة الجادة إلى طاولة المفاوضات. حتى الآن لم تقدّم الأخيرة ما يدعم فعلياً هذا التصور، ولم يكن هناك تفسير للعرض المتكرر الممل الذي بحسبه تضغط موسكو فيوافق الأسد على المشاركة في جولة جديدة لإفشالها! المفارقة أن بشار الأسد، في هذا السياق حصراً، هو الأكثر صدقاً ونزاهة في التعبير عن نواياه ومبدئيته. هو لا يخدع حتى خريجي دورة الأركان الذين يتحدث إليهم، إذ “يبشّرهم” بوجهتهم وهو ينهي كلمته بالقول: إلى لقاء قريب إن شاء الله في ميادين القتال.