سعد الحريري: زعيم أم ضحية؟

 

هشام عليوان – أساس ميديا

ثمّة إصرار لدى بقايا تيار المستقبل، على موقف واحد، مهما كان اتجاه الريح، ومهما كانت الآمال أو الإحباطات، وهو أنّه لا بدّ من الاجتماع والتحلّق حول سعد الحريري، كي يقوى بنا، ونقوى به. “وكفانا تشرذماً”. ومعنى التشرذم هنا هو الابتعاد عن قيادة سعد الحريري حصراً، لأنّ التوحّد حول شخص آخر هو تشرذم. وأيّ عامل في الشأن العام، خارج السرب، هو “خائن”!

 

الخيانة هنا تعني التخلّي عن سعد الحريري، لا عن مبادئ معيّنة، ولا عن مصالح السُنّة. المعنى المستفاد ممّا سبق أنّ الحريري زعيم أوحد أو الزعيم الأقوى للسنّة، مثله كسائر الزعماء اللبنانيين. وعلينا أن نحتذي بجماهير الزعماء الآخرين، كي يكون لنا اعتبار في الدولة وفي النظام. لذلك كلّ من يُعيق طريق الحريري نحو الزعامة المطلقة، وبالمثل، نحو مقام رئاسة الحكومة، هو خائن للطائفة. لكن ما الذي يتصف به الحريري من مواصفات الزعامة، بالمقارنة مع نظرائه الطوائفيين؟

تتوافر لدى زعماء الطوائف في لبنان شتّى الصفات المعروفة للزعامة أو القيادة، مِن تولّي المناصب الرسمية سواء في الدولة أو الحزب الأكبر في الطائفة، أو التحلّي بالصفات الشخصية المميّزة، أو تحقيق الإنجازات الكبيرة بنظر الأتباع، وإلى كيفيّة إدارتهم للشؤون الطارئة والراهنة بما يحقّق مصالح الطائفة على نحوٍ خاصّ، وذلك بحسب النماذج الأربعة التي استنبطها الباحث كيث غرينت (Grint Keith) في كتابه “القيادة: مقدّمة قصيرة جداً” (Leadership: A Very Short Introduction)، عقب اطّلاعه على آلاف الكتب والدراسات في هذا الاختصاص، وهو مجال تتضخّم أدبيّاته بسرعة في الغرب. فأين سعد الحريري من مواصفات الزعامة؟ وهل تتوافر فيه أيّ من النماذج الأربعة: المنصب الرسمي، أو الشخصية القيادية، أو الإنجاز، أو كيفيّة تولّي الأمور؟

يميّز عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (Max Weber) بين ثلاثة أنواع من السيطرة التي يمارسها القائد على الجمهور. فهناك السيطرة التقليدية التي كان يمارسها الأمير، سيّد الأرض في العصور القديمة، ولا تزال قائمة بنوع ما، في مستويات اجتماعية تقليدية، والسيطرة الكاريزماتية التي يمارسها فردٌ ما بناء على ما يتمتّع به من موهبة غير عادية، إمّا بسبب ما ينزل عليه من وحي إلهي (النبي)، أو لِما يتمتّع به من بطولة (القائد العسكري) ومن صفات قيادية أخرى (زعيم الحزب السياسي مثالاً)، وهناك السيطرة الشرعية أو القانونية من خلال الاقتناع بصلاحيّة دستور ما وتطبيق قواعده (انظر ماكس فيبر، “العلم والسياسة بوصفهما حرفة”).

وفي هذا المضمار، من الأسهل بكثير تلمّس السِّمات التي جعلت رفيق الحريري قائداً وزعيماً سنّيّاً لا نظير له، فهو لم يكن يحتاج إلى منصب رسمي ليكون زعيماً، بل كان أقوى من المنصب وأعلى منه. أمّا المواصفات الشخصية الخَلْقية والخُلقية فكانت واضحة، يتمتّع بالجاذبية والهيبة معاً، وأُضيفت إليها إنجازاته المتراكمة، وكيفيّة إدارته الأمور بالفعّالية والنشاط وسرعة البديهة. فنتجت من كلّ هذا شخصية ذات كاريزما قويّة بتأثيرها في مَن حولها، وبتطلّع الناس إليها، والتعويل عليها لحلّ أيّ معضلة مهما كانت عويصة.

أمّا سعد الحريري، نجل الشهيد، فقد ورث الزعامة فجأة، استمداداً في البدء من كاريزما والده في حياته وبعد الاستشهاد. انتقلت كاريزما رفيق التي تضخّمت باغتياله، إلى ابنه سعد الدين. وهي ليست مجرّد حمولة معنوية تنتقل كما يُنقل الميراث المادي من الأب إلى أبنائه. أصل الحكاية أنّ الأتباع يصنعون القائد في نفوسهم، ويعكسون آمالهم عليه، فهي عملية تبادلية بين القائد والجمهور، وقد اعتبر هؤلاء الأتباع سعد الدين امتداداً عضوياً لوالده. وعلى هذا، فقد استمرّ الحريري الابن بوهج كاريزما والده وسجلّه الحافل بالإنجازات والعلاقات بين عاميْ 2005 و2011. ولم ينجح اجتياح الحزب لبيروت في 7 أيار عام 2008، في إضعاف زعامته، على الرغم من الأخطاء الهائلة آنذاك، في التقدير، وفي التدبير، وفي عواقب الأمور. بل ربّما اكتسب تعاطفاً أكبر كضحيّة. وهذا المنحى سيترسّخ عقب إسقاط حكومة الثلث المعطِّل والوزير المَلَك، أثناء زيارة الحريري واشنطن للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2011، ثمّ تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل حكومة، ومكوثه في الخارج حتى عام التسوية الرئاسية عام 2016. فحين تلمّس الحريري صفقة سياسية عتيدة تعيده إلى المنصب الرسمي، وهو عنصر أساسي في تكوين زعامته بعد ضمور الجوانب الأخرى، كانت كاريزماه المكتسبة بالوراثة قد أوشكت على النفاد، فكان البديل منها هو التضحية بمعنى التنازل، وفي هذا تشديد على معنى الضحية. “بيّ السنّة” يضحّي هنا من “أجل إنقاذ طائفته من الدمار والتهجير”. وبموازاة ذلك، أعلن أنّ الثروة قد أنفقها على البلد.

ثمّ تتابعت الأنباء عن إفلاس شركة سعودي أوجيه، وإقفال مؤسساته الإعلامية تدريجياً. فكأنّه استعاض بموقع رئاسة الوزراء عن الإنجاز في المجاليْن الخاصّ والعامّ، وبهذا الموقع، استمرّت زعامته للسنّة.

ثم جاءت فرصة أخرى عام 2018، ليكرّر ما أنجزه والده في مؤتمرات باريس 1و2و3، بالتحضير لمؤتمر “سيدر” بدعم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومن خلال نظرة إلى المشروعات المقترحة ضمن موازنة 11 مليار دولار و800 مليون دولار (أكثريتها قروض) نجد الاستثمار مجدداً في البنية التحتية، لكن مقابل قيود مشدّدة بشأن الإصلاحات، وهو ما فشل في إرسائه إلى أن اندلعت احتجاجات 17 تشرين الأول عام 2019. أمّا كيفيّة إدارته للأمور، فكانت نقطة سالبة أيضاً، ولا سيّما إبّان التخلّي عن شخصيّات كانت رافقت رفيق الحريري في مسيرته السياسية، أو كان لها أدوار فاعلة في مجالات حيويّة، ثمّ تعامله المتعثّر مع تيار المستقبل الذي كان من أكبر الكيانات الشعبية السياسية في لبنان، ففرّط فيما يختزنه من طاقات، مكتفياً باعتباره ماكينة انتخابية موسمية.

وعندما استقال في أواخر تشرين الأوّل عام 2019، افتقر الحريري إلى المنصب السياسي، ومعه صفة الضحيّة. فالجماهير انتفضت على النتائج الكارثية للتسوية السياسية وما رافقها من تحاصص حزبي وطائفي، كما رفضت تحمّل كلفة الإصلاحات. وهو مسؤول كغيره عن الأزمة التي تتفاقم كلّ يوم. فكانت المفاجأة ترشيح نفسه مجدّداً لرئاسة الحكومة بعد عام من استقالته، بوصفه “مرشّحاً طبيعياً”. وتعني هذه الصفة أنّ رئاسة الحكومة من حقّه الطبيعي، كأقوى زعيم سنّي، أيْ عدنا إلى نقطة البداية، مع فارق أنّه حاول استعادة صفة “الضحيّة” أيضاً بصراعه الطويل مع رئيس الجمهورية على شكل الحكومة وعدد حقائبها وتوزيع الطوائف فيها، على مدى تسعة أشهر. ثمّ اعتذر، وأراد كشف الأوراق عمداً في حوار متلفز، أمام إعلاميّة معروفة بمعارضتها لخطّ رفيق الحريري.

اكتملت عناصر العودة إلى المسار التحشيدي التقليدي، تحت عنوان حقوق الطائفة ومقام رئاسة الحكومة، مع تلبّس شخصية الضحيّة بزخم أكبر، استعداداً للانتخابات النيابية المقبلة. لكن حتى إدارة الأمور لم تكن كما ينبغي. غاب عن المشهد في لحظة حاسمة. وعاد إلى لبنان، استعداداً للاستشارات النيابية الملزِمة، بمرشّحه الذي كان متوقّعاً من قبل، أي الرئيس نجيب ميقاتي، ويفترض الحريري وحده أنّه تحت عباءته. ولا مفرّ أمامه بعد ذلك إلا أن يحاول استعادة زخمه الشعبي، ومقام رئاسة الحكومة استطراداً، في ظروف أكثر تعقيداً وصعوبةً بكثير.

أثناء ذلك ماذا يبقى من زعامته؟

 

Exit mobile version