أمس، قررت الولايات المتحدة أنها «تساعد» لبنان من خلال فرض عقوبات على سياسيين ورجال أعمال أدانتهم بالعمل على تقويض القانون في لبنان والإثراء بالفساد. وبالتالي، ابتداءً من صباح اليوم، ستمتثل حكومات غالبية دول العالم، وفي مقدمها حكومة لبنان ومصارفه ومؤسساته، لتنفيذ الفرمان الأميركي. وسيكون من السذاجة انتظار بيانات انتقاد للقرار من قبل الحاكمين في لبنان، سواء منهم ممّن هم في موقع السلطة، أو ممّن يرشّحون أنفسهم بديلاً باسم الثورة، لأن هؤلاء في حال هياج مستمر لاسترضاء ممالك وإمارات القهر والموت في الجزيرة العربية احتجاجاً على إبداء جورج قرداحي رأيه في مسألة سياسية، وهو مجرّد رأي أخلاقي وإنساني وعقلاني قبل أن يكون سياسياً.
أعلنت الولايات المتحدة أمس فرض عقوبات على رجلَي الأعمال داني خوري وجهاد العرب وعلى النائب والسياسي جميل السيد.
ما يجمع بين الثلاثة هو القرار الأميركي وجنسيّتهم اللبنانية. بينما هناك كثير من عناصر الاختلاف بين ما يقوم به كل منهم، إلا إذا كانت الولايات المتحدة قد قررت اعتماد مبدأ التساوي بين الطوائف، فأدرجت سنّياً ومسيحياً وشيعياً على لائحة واحدة من العقوبات… والله ستر بعدم العثور على درزي مناسب لاكتمال النصاب!
سيكون هناك كثير من العمل من قبل خوري والعرب لمواجهة القرار الأميركي. والأرجح أنهما سيتجهان صوب المحاكم الأميركية لمواجهة القرار والسعي الى نقضه، وسيكون في انتظارهم جيش من المحامين الأميركيين، وهم في غالبيتهم ممّن ترضى عنهم الإدارة الأميركية، وعندها تفتح أبواب السمسرات… لكنْ هناك كلام آخر عن جميل السيد!
لا نعرف ما إذا كان مصادفة ما سمعناه كثيراً الأسبوع الماضي من شعارات رفعها عملاء أميركا احتجاجاً على استدعاء سمير جعجع الى التحقيق في جريمة الطيونة، وهي شعارات قامت على فكرة «أن ما حصل عام 1994 لن يتكرر». كاتبو هذه الشعارات ورافعوها قصدوا أن جعجع اعتُقل ظلماً عام 1994 بعدما سعى النظام الأمني اللبناني ــــ السوري الى الإيقاع به، وكان على رأس هذا النظام شخص اسمه جميل السيد.
ولا نعرف ما إذا كانت مصادفة، أيضاً، أن يتذكّر أنصار الحاكم بأمر الله رياض سلامة أن جميل السيد هو من يقود الحملة على «رجل أميركا الأول» وسياساته النقدية الكارثية، ودعوته الدائمة الى محاسبته، ومحاسبة كل من تعاقبوا على المسؤولية عن السياسات المالية، وأن جميل السيد واحد من أبرز المحرّضين في اللجان النيابية على فتح صندوق الفساد الذي يقف خلفه الحاكم، علماً بأن الأخير اطّلع، قبل يومين على القرار بِشأن العقوبات على السيد والعرب وخوري، لكنه التزم الصمت خشية أن تطاله العقوبات الأميركية أيضاً إن تلفّظ بكلمة.
لا نعرف ما إذا كانت مصادفة أن تسبق قرار العقوبات، خطوة أرادها جميل السيد لتحصيل حقوقه من الأمم المتحدة وجميع من تورّطوا في اعتقاله تعسفياً واتهامه بالمشاركة في اغتيال رفيق الحريري، وعلى رأسهم سفراء ودبلوماسيون وأمنيون من أميركا ودول الغرب..
كما لا نعرف ما إذا كانت مصادفة أن تُوجّه تحذيرات إلى مجموعات ممّن شاركوا في حراك 17 تشرين من التواصل مع جميل السيد أو التعاون معه في الانتخابات النيابية المقبلة، أو حتى الاستماع الى ما يقوله.
لكن ما نعرفه هو الآتي:
جميل السيد هو الوحيد الذي لم يستطع أعتى خصوم الحكم اللبناني بين عامَي 1990 و2005، أن يتّهمه بالفساد. وكان العنوان الأبرز لكل هؤلاء البطريرك الراحل نصر الله صفير وفرقه السياسية التي أنتجت لاحقاً المسخ المسمّى 14 آذار. وصفير، نفسه، لم يجبره أحد على تمييز جميل السيد والأمن العام من حملة الفساد التي اتهم بها كل الحاكمين في فترة «الوصاية السورية».
جميل السيد، وحده، وسراً، ومن دون دعم أو وصاية من أحد، رفض عروضاً متتالية من قبل جلاوزة لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري، ورفض أن يقايض حريته بكلمة واحدة ضد سوريا أو حزب الله.
جميل السيد بقي في السجن سنوات طويلة، بقرار تشارك فيه السفيران الأميركي والفرنسي جيفري فيلمتان وبرنار إيميه، مع كل فريق 14 آذار، من وليد جنبلاط الى سعد الحريري والكتائب وجماعة «ثورة الاستقلال»، وبمواكبة فرنسية وأميركية وألمانية وسعودية، ونفّذه قضاة جبناء في لبنان ممن يرفعون اليوم لواء استقلالية القضاء، ووسط صمت آخرين من أركان الحكم الحالي. وقرار الإفراج عنه كان أمراً إلزامياً من قبل محكمة دولية تافهة نقلت الاتهام، بفعل جدول الأعمال الأميركي، من سوريا والضباط الى حزب الله مباشرة، واضطرت إلى الاعتذار منه مباشرة وبصورة شخصية.
جميل السيد تعرّض خلال فترة الاعتقال، وبعد إطلاق سراحه، لـ«جردة» لم تترك عنده ورقة إلا اطّلعت عليها، ولا مصرفاً إلا سألته عن حساباته، ولا جهة سياسية أو أمنية أو إعلامية إلا جمعت منها ما يمكن أن يدين الرجل، ولم تكن النتيجة سوى هراء بهراء.
جميل السيد لم يوافق على إطلاق سراحه عنوة من قلب السجن في رومية، لا خلال حرب 2006، ولا خلال أحداث 7 أيار 2008، وبقي متمسكاً بحقه في القتال بالقانون لإثبات براءته، ثم تعهّد بملاحقة الظالمين أينما حلّوا.
جميل السيد لم يقبل أن يُنتخب نائباً بعد خروجه من السجن مباشرة، بل انتظر ولاية نيابية كاملة لتركيز تموضعه بعد الخروج من الاعتقال السياسي، وعندما شنوا عليه حملة شيطنة باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه من الناس، وأنه في حال نجح سيكون ذلك بأصوات حزب الله، جاءت النتائج لتعطيه ما يفوق نواب حزب الله نفسه.
جميل السيد لم يكن مفروضاً على وسائل الإعلام أو المنتديات، بل صوت قوي يحتاج إليه الجمهور، فظلّ يطلّ على كل الشاشات التي تعرف من تختار من ضيوف، ممن لا يعكسون موقفاً واضحاً وشجاعاً فحسب، بل يشرحون ويقدمون المعطيات الوافية حول ما يجري.
جميل السيد لم يكن شخصاً تابعاً وخاضعاً لقوانين اللعبة التي تجعل السياسي أو النائب محكوماً بسقف معين من حلفائه. اختلف مع حزب الله في كثير من الأمور، بما في ذلك مقاربة ملف التحقيقات في جريمة المرفأ، واختلف مع الرئيس نبيه بري في إدارة عمل المجلس النيابي وحتى حول سياسة حركة أمل، ولم يكن على وئام فعلي مع التيار الوطني الحر رغم حرصه على علاقة خاصة بالرئيس ميشال عون، ولم ينتقد علناً الكثير من المؤسسات الوطنية اللبنانية برغم مجلدات الملاحظات المستندة الى وقائع ومعطيات، حرصاً منه على فكرة المؤسسات الجامعة في دولة منهارة.
جميل السيد، يراد له أن يُبعد قسراً عن المشهد، تماماً كما حصل عام 2005. ولكن، ساذج ــــ إن لم يكن أكثر ــــ من يفترض، من الأقربين أو الأبعدين، أن جميل السيد متروك وحده، وأنه لن يجد ناصراً ينصره في كل ما يحتاج إليه في معركته الجديدة في مواجهة ظلم تمرّس في مواجهته على مر السنوات.
تبقى إشارة الى ما أسرّ به أحدهم، أمس، بأن العقوبات على جميل السيد هدفها إزاحته باكراً عن لائحة المرشحين لرئاسة المجلس النيابي. نقول هنا: أمدّ الله في عمر نبيه بري، وأعانه على إصلاح ما حوله من بناء. لكن، يجب التفكير بصوت مرتفع بأن «زمن الأول تحوّل»، وأن من يرفع شعار عدم تكرار تجربة عام 1994، وهو الذي كان مجرماً مداناً من مجلس عدلي أيضاً، عليه إدراك أن لا مجال لتكرار تجربة 2005، عندما كان جميل السيد سجيناً سياسياً بامتياز. وعليه التفكير، أيضاً، بأن هذه العقوبات، على قساوتها، ربما تكون جواز عبور جميل السيد الى رئاسة المجلس أيضاً!