قاسم يوسف -أساس ميديا
ليست المشكلة في إبداء رأيك. معاذ الله. فلا أحد في العالم يستطيع أن يمنعك هذا الحقّ. سواء أكنت وزيراً أو خفيراً أو مواطناً مقيماً أو مهاجراً منتشراً. المشكلة يا صاحب المعالي تكمن تماماً في الرأي. في الذاكرة المثقوبة. في ازدواجيّة المعايير. في التبنّي والنسخ الحرفيّ لأدبيّات الممانعة والممانعين الذين طالما صدّعوا رؤوسنا بالسيمفونية عينها. وهم أرباب القتل وأسياد الاعتداء وأباطرة النهش والقضم والتخريب.
ينسى جورج قرداحي، أو يتناسى، أنّ إيران تباهت غير مرّة باحتلال أزهى وأقدم عواصم العرب. ثمّ تباهت، مباشرة أو مواربة، باجتياح حواضرهم. بتمزيق أنسجتهم. بكسر مجتمعاتهم. بعدما حوّلتهم جميعهم إلى دول فاشلة وشعوب مقهورة وأناس يبحثون بلا أفق عن أبسط مقوّمات العيش الكريم.
ينسى أو يتناسى دورها الرهيب في لبنان، منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري وصولاً إلى أيّامنا هذه. ينسى أو يتناسى دورها الكارثيّ في سوريا، منذ الكذبة التاريخيّة في حماية المراقد، حتّى تنفيذها لواحد من أفظع التغييرات الديموغرافية عبر أكبر ترانسفير مذهبيّ عرفه تاريخنا الحديث. ينسى أو يتناسى دورها الهدّام في العراق. ذاك البلد الهائل الذي حوّلته مع حلفائها إلى كومة من الجثث والضغائن والركام.
ينسى جورج قرداحي أو يتناسى ما قاله الرئيس اليمنيّ الأسبق عبد ربّه منصور هادي للزميل غسّان شربل قبل أشهر قليلة من انطلاق عاصفة الحزم: إذا سيطرت إيران على باب المندب، فهي لن تعود بحاجة إلى قنبلة نوويّة.
ينسى كلّ هذه الوقائع وسواها، ويتذكّر ما يحلو له أن يتذكّره، من دون الركون إلى منطق مستساغ أو رؤية مفهومة، بل إلى مواقف مسبقة لفحتها رياح الكراهية والحقد، وصارت لازمة كلّ الأوركسترا التي طالما ردّدت الكلام نفسه خلف الموسيقار نفسه، من دون أيّ اجتهاد أو تعديل.
ولكن ماذا عن المنطق؟
هل يجوز بأيّ شكل من الأشكال أن تنتقد دور السعوديّة والإمارات في اليمن، ثمّ تُثني على مزايا بشّار الأسد بعدما قتل وجرح ما يزيد على مليون سوريّ، وشرّد أضعاف أضعافهم إلى أربع جهات الأرض؟
هل يجوز بأيّ شكل من الأشكال أن تنتقد دور السعوديّة والإمارات في اليمن، وأن تقف إلى جانب الحوثيّين، ضمن رواية مجتزأة لا تستوي مع الوقائع والمنطق، ثمّ تُبارك الدور الإيرانيّ الهدّام في المنطقة، وتقف إلى جانب أذرعها الأمنيّة والعسكرية باعتبارها صورة زاهية ومميّزة تقف في مواجهة مؤامرة كونيّة تستهدف تركيع المنطقة وإخضاع أهلها؟
لا يجوز لك أن تقول هذا كلّه. قبل الوزارة أو بعدها. لا فرق. لأنّك حين تفعل ذلك، فإنّك لا تُعلن انتماءً أكيداً لبيئة سياسيّة وحسب، بل تُشير بالبنان إلى أزمة شخصيّة وأخلاقيّة لا يختلف عليها عاقلان.
يحقّ لشخصيّات مستقلّة ومستقيمة ومجرّدة أن تدلو بدلوها، وأن تمارس شتّى أشكال النقد وإبداء الرأي والنصيحة والموقف، والبعض قد يتقاطع معها في مواقفها أو يفترق، لكنّهم يدركون في عميقهم أنّ الخلاف في وجهة النظر مع هؤلاء لن يفسد في الودّ قضيّة، بل على العكس من ذلك تماماً، على اعتبار أنّهم يشكّلون مساحة مفتوحة للنقاش وتصويب الموقف وتلقيح الأفكار الخلّاقة وتسمين جلسات العصف الذهنيّ والنقد الذاتيّ.
لكن لا يحقّ لك، كما لا يحقّ لزميلك النزق في الحكومة التي مضت، أن تختبئا خلف حرّيّة الرأي والتعبير أو خلف نكتة التوقيت السمجة، لأنّها ليست مواقف لحظيّة أو نتيجة حدث مستجدّ، بقدر ما هي تجسيد فاقع لنسق وأدبيّات معروفة، وهي كلّها نتاج مدرسة مريضة ومصابة برُهاب فظيع تخطّى حدود الحقد والضغينة، كأن تعاير العرب مثلاً ببداوتهم، أو أن تقف إلى جانب الحوثيّين، ليس انطلاقاً من أسباب موجبة أو وقائع مؤكّدة أو روابط شخصيّة تجمعك بهم، بل لأنّهم فقط جزء من المحور الإيرانيّ، ومن تحالف الأقلّيّات في المنطقة.
عبّر ريمون إدّه ذات مرّة عن موقفه من اتّفاق القاهرة، داخل الحكومة وخارجها، داخل مجلس النواب وخارجه، وظلّ ضنيناً باستقلاليّته ونزعته السياديّة، حتى في مواجهة جمال عبد الناصر وياسر عرفات وحلفائه التقليديّين، وهو في ذلك وطنيٌّ لا يُشقّ له غبار، وصاحب رأي ثابت وثاقب وشجاع، أمّا أنت فلست سوى الصدى الأنيق لصوت أسود ولمشروع مدمِّر ولفكرة تتعارض تماماً مع المصلحة العليا للبنان ودوره ورسالته.
هنا تماماً لا أهميّة للتوقيت. لأنّه فعل اعتداء لا يسقط بمرور الزمن. ومَن قال أساساً إنّ الحكومة تجبّ ما قبلها؟ وكيف يُطلَب من العرب أن ينفتحوا على حكومة لبنانيّة يقول المروِّجون لها إنّها من المستقلّين، فيما تضمّ في صفوفها غالبيّة موصوفة تعتمد منطقاً مناهضاً ومعادياً لها، وهو منطق يتجاوز الظروف الآنيّة إلى ما يشبه الأدلجة المستدامة.
يقول جورج قرداحي إنّه لم يُخطئ ليعتذر أو يستقيل. وهو محقّ تماماً. لأنّ أفكاره تلك هي أساساً فكرة الحكومة وأفكار غالبيّة أعضائها، وهي التي رفعته وسواه إلى تولّي وزارة في حكومة حزب الله وجبران باسيل، وما كان ليصل بدونها. وبالتالي ليس المطلوب إسقاط الرجل وحسب، بل إسقاط الحكومة برمّتها، بدءاً من رئيسها المغيّب والغائر في سبات عميق، وصولاً إلى وزيرها المفوّه الذي خاطبنا بفوقيّة نافرة وطالبنا بالرقابة الذاتيّة على تصريحاتنا، وذلك منذ أن حطّت رحاله في مطار بيروت.
لا يختلف جورج قرداحي عن شربل وهبي أو مي خريش وغيرهم من شذّاذ الآفاق. هذه مدرسة تتنوّع فيها الوجوه والشخصيّات. لكنّها على القدر ذاته من الحقد والكراهية والمواقف المسبقة، وهي لن تتغيّر، لا قبل الحكومة ولا بعدها، وستظلّ عنواناً دائماً للانهيارات والخراب والحروب العبثيّة، ولا حلّ إلا باقتلاعها واجتثاثها من حكومتنا ومؤسّساتنا ومن يوميّاتنا ويوميّات البلد.