جورج شاهين-الجمهورية
لا يمرّ يوم بساعاته الكاملة من دون ان يقدّم المسؤولون نموذجاً حياً عن مدى الفشل في مواجهة أي من العِقَد المستعصية على الحل. وخصوصاً تلك التي تحتاج الى الآليات الدستورية الواجب اعتمادها. وفي الوقت الذي تظهر بشائر حل لإحدى هذه العِقَد تنبت أخرى، ما لم تأتِ التطورات بواحدة من خارج السياق فيتراكم الفشل. وعليه طُرح السؤال: هل من وسيلة أنجح للتعتيم على الحقائق وتعويم الفشل؟ كيف ولماذا؟
كان واضحاً أنّ الأسبوع الذي نمرّ فيه حافل بالاستحقاقات الكبرى، ففيه تجمعت رزمة من الأزمات المعقّدة والمتداخلة، إلى درجة توزع فيها الخوف على مختلف ما هو مطروح من حلول، وعمّمت القلق من تفاعلاتها السلبية والخطيرة على مستوى العلاقات بين اللبنانيين من حلفاء وخصوم. كما بالنسبة الى مدى قدرة أهل الحكم على المواجهة، في ظلّ فقدان التواصل السليم بين السلطات الدستورية بما فيها من مواقف ورؤى متناقضة وعدم توافر القدرات الكافية، في ظلّ خلافات مستحكمة خلطت نابل المواقف بوابل المصالح الصغيرة من دون مراعاة واحتساب تداعيات التطورات الإقليمية والعالم، وما يمكن ان يتأتى من انعكاسات نتيجة الحراك الدولي المتسارع والمتشعب على مصالح الوطن الصغير ومواطنيه.
ومن هذه الزاوية بالذات، يتطلع المراقبون الى مختلف التحرّكات المتوقعة منها وتلك المفاجئة، لاستكشاف آفاق الحلول الممكنة إن وجدت، لكثير من القضايا العالقة والتي باتت مترابطة الى حدّ بعيد بطريقة زادت من التعقيدات التي حالت دون ولوج الحلّ لأي منها.
ففي الحسابات الطافية على سطح الأحداث، قضايا أمنية مقلقة وسياسية متشعبة وقضائية معقّدة وحكومية ووزارية وسياسية غامضة، نتيجة الخلافات الظاهرة للعيان، وتلك التي ما زالت تتفاعل داخل الأندية والأحلاف السياسية.
فانقسامات الماضي التي نمت على هامش الشغور الحكومي على مدى 13 شهراً ما زالت قائمة، لتلقي بتردداتها على كل ما هو مطروح.
ولا يسقط من حسابات المراقبين ما سبق ان فعلته الانقلابات فعلها في كثير مما هو قائم. وفي الوقت الذي لم تنجح مساعي إحياء بعض القديم منها ظهرت بوادر أزمات أخرى قد تكون لها انعكاسات أصعب على الوضعين السياسي والحكومي. فالأزمة الديبلوماسية التي أطلّت بقرنها في الساعات الماضية نتيجة ما نُشر من مواقف لوزير الإعلام جورج قرداحي زادت في الطين بلة وخرقت الاهتمامات الموزعة على بقية الملفات وأجبرت رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على عقد لقاء طارئ لم يكن في الحسبان، للبحث في سبل تجاوز هذه الأزمة ونتائجها على مصير الحكومة وكأنّه لا ينقصها ما تعانيه من وجوه النزاع الداخلي الذي انفجر في جلسة 12 من الشهر الجاري قبل ان تعمقّها أحداث الطيونة.
وإن خُصّص لهذه الأزمة بعضاً من الاهتمام الرسمي في السياسة والديبلوماسية، برزت الخشية من ان يعيد التاريخ نفسه في وقت قياسي فتتجدّد تلك التي عانى منها وزير الخارجية السابق شربل وهبة، الذي اضطر الى التنحّي عن مهماته كوزير للخارجية، تداركاً لما هو أسوأ. فالعلاقات المهدّدة اليوم بفعل هذه التصريحات تعدّت ردّ الفعل السعودي، وإن كرّرت دول مجلس التعاون الخليجي مواقفها السابقة، فإنّ من الصعب توفير مخرج يحول دون تنحّي وزير الاعلام وما تستدعيه مثل هذه الخطوة في هذا التوقيت بالذات، وخصوصاً انّها تطيح ما بناه طوال عمره المهني من العلاقات، مع رموز من القيادات السعودية وأمراء المنطقة. مع الإشارة إلى أنّه لم تعد لها أي حسابات في الميزان الخليجي الجديد الذي يتعاطى مع المسؤولين اللبنانيين بعد حرب اليمن وأحداث البحرين ومناطق خليجية مختلفة بـ «ميزان الجوهرجي». فباتوا يقدّمون مصالحهم الحيوية التي تجاوزت ما كان يرافق إجراءاتهم السابقة بما فيها من تفهم وتسامح وتغاضٍ عمّا يرتكب.
والأخطر من كل ذلك، إن باتت مواقف قرداحي موضوع تجاذبات داخلية، متى تبرأ منها مسؤولون وتبنّاها آخرون، وهو ما ترجمته بعض البيانات الحكومية والسياسية، وربما استدرجت المراجع الدينية والاقتصادية والتجارية الى إصدار مزيد منها، في وقت جهدت هذه المراجع جميعها لترميم العلاقات بين بيروت والرياض وعواصم خليجية اخرى متضامنة معها منذ قضية «الرمان المخدّر» لتزيد من تفاعلاتها السلبية بما لم يكن في الحسبان.
وعليه، فإنّ ما يمكن التوقف عنده يتمثل بما تسببت به هذه الأزمة الديبلوماسية من أضرار على مسيرة البحث عن حلول لعِقَد أخرى أكثر تشابكاً وإيلاماً، فرفعت من نسبة التشنج الى الحدود القصوى، وكأنّه لا يكفي ما يعانيه اهل الحكم من قصور وفشل في مواجهة التحدّيات الأمنية والقضائية المطروحة عليها، والتي انعكست على الأجواء الحكومية المتردية وسط تردّد في حسم ما انتهت اليه مبادرة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، التي أوحت بعد ظهر امس الاول، بأنّ هناك مخرجاً دستورياً يرضي جميع الأطراف ويسمح بسلوك طريق الحل، الى واحدة من أصعب المشكلات التي تفتح باباً لمخارج تخفف من حدّة أزمات عدة.
وقبل ان يطلع ضوء نهار أمس، ظهر التشكيك بتفاهمات المساء والليل، بين قائل بأنّ الحديث عن الموافقة الشاملة على المبادرة دونه عقبات، وانّ ذلك يحتاج الى مزيد من التدقيق. وإن صح ذلك فهو ليس أمراً مستغرباً، فالسعي إلى مثل المخارج المطروحة يتناقض في جوانب عدة بين ما أنيط من صلاحيات ليس بالسلطة القضائية وحسب، انما بصلاحيات المحقق العدلي ومدى قدرته على تجزئة التحقيق بين ما يمكن ان يستمر فيه وبين ما سيُحال الى لجنة التحقيق النيابية والى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب لاحقاً، في ما يخضع آخرون للتحقيق امام المحكمة الخاصة بالقضاة. وكل ذلك يجري في وقت يتمنّى مجلس القضاء الأعلى على المحقق العدلي الإسراع في الوصول الى قراره الاتهامي في ظلّ المعوقات التي تحول دون إنجازه بتعذّر الوصول الى مرحلة الاستماع الى إفادات مسؤولين وشخصيات لها علاقة بأدق تفاصيله.
وبناءً على كل ما تقدّم يبدو انّ الطريق الى حلّ أي من هذه المشكلات أمرٌ ليس سهلاً. فالتعقيدات في المواقف السياسية وتشابكها مع ما هو أمني وقضائي ودستوري وعدلي، أفرزتها تداعيات المرفأ والطيونة وما بينهما من محطات تشنج سياسي. فأرخت بأثقالها على مجريات التحقيقات التي أجرتها مديرية المخابرات في الجيش، وتلك التي انتقلت الى القضاء العسكري، من دون إهمال ما يمكن ان تفرضه قوى الأمر الواقع من خارج المؤسسات الدستورية، وهي وقائع توحي الى الأعمى في السياسة والأمن والقضاء، أن يتيقن انّ كل ما يجري يهدف الى طمس الحقائق المتصلة بتفجير المرفأ ومعها بالتحقيق العدلي، والتعمية على تحقيقات الطيونة في ظل التسريبات المشبوهة لما انتهت اليه، من أجل تعويم فشل قوى السلطة التي اسقطتها التجارب السابقة على حساب الأمن والقانون والدستور، وما يتمناه اللبنانيون، بمن فيهم اهالي الضحايا وأولياء الدم الى اي جهة انتموا.