يسمح “حزب الله” لنفسه بالذهاب بعيداً والتمادي في كلّ ما يقوم به في لبنان. في أساس هذا التصرّف، الذي يعني أوّل ما يعني الانهيار الكامل للبنان ولمؤسّساته، أنّ البلد متروك عربيّاً ودوليّاً. في أساس الأساس قرارٌ أميركيٌّ بعدم التصدّي لإيران ومشروعها في المنطقة، وهو قرار قائم منذ عام 1979 مع انتصار “الثورة الإسلاميّة” وقيام نظام على قياس آية الله الخميني. نظام مبنيّ على نظريّة “الوليّ الفقيه” التي تعني في مقدَّم ما تعنيه وجود رجل دين معصوم، هو “المرشد”، يمتلك الكلمة الأولى والأخيرة في إيران. يطمح “المرشد” إلى امتداد نفوذه إلى خارج إيران، ومن ضمنه لبنان، فضلاً عن العراق وسوريا واليمن طبعاً.
إذا وضعنا جانباً حدثاً وحيداً تمثّل في اغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني مطلع العام 2020، بُعيْد مغادرته مطار بغداد، نكتشف أنّ الإدارات الأميركيّة المتلاحقة تعاطت مع إيران منذ العام 1979 بطريقة توحي بوجود تواطؤ في العمق بين طهران وواشنطن.
لعبت إيران الجديدة، إيران ما بعد سقوط الشاه، اللعبة على أصولها. لم تستفزّ الإدارة الأميركية أو الغرب في البداية. تشكّلت حكومة إيرانيّة برئاسة شخصيّة معتدلة هي مهدي بازركان. لم تمضِ أشهر قليلة على سقوط النظام الإمبراطوريّ في شباط، حتّى كشّر النظام الإيراني عن أنيابه بحجّة أنّ بازركان اجتمع، في تموز، بمستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي على هامش أحد المؤتمرات في الجزائر. جاء شهر تشرين الثاني من 1979 كي تتأكّد هزيمة الجناح المعتدل في الثورة الإيرانية. رحل بازركان، وبدأت عمليّة احتجاز الرهائن الأميركيّين من دبلوماسيّي السفارة وموظّفيها. كان عدد هؤلاء 52. استمرّ احتجازهم 444 يوماً أظهرت خلالها إدارة جيمي كارتر الديموقراطيّة ضعفاً ليس بعده ضعف. ارتجلت إدارة كارتر عمليّة إنقاذ عسكريّة فاشلة للدبلوماسيّين انتهت بفشل ذريع. من بعدها استسلمت أمام الخميني ونظامه كي يظهر لاحقاً أنّ صفقة عُقِدت من خلف ظهرها بين المرشّح الجمهوريّ رونالد ريغان والنظام الإيراني. عُقِدت الصفقة في باريس بين أحد المسؤولين عن الحملة الانتخابيّة لريغان، وليم كايسي، الذي صار لاحقاً مديراً لـ”سي.آي.إي” من جهة، وممثّلين للنظام الإيراني من جهة أخرى.
تولّى تسريب نبأ الصفقة ضابط الاتّصال الإيراني في حركة “فتح” في بيروت الذي كان يزور مكاتب صحيفة “النهار” بشكل شبه يوميّ. سرّب النبأ المتعلّق بالصفقة عن طريق وكالة أنباء أميركية (يونايتد برس) كان مكتبها في الطبقة الرابعة من بناية “النهار” الواقعة في أوّل شارع الحمراء. كانت لدى ضابط الاتصال الإيراني ذلك مهمّة واضحة تقضي بتسريب النبأ عبر وسيلة إعلام أميركيّة. كان ذلك من حظّ الصحافي اللامع توماس فريدمان الذي كان يعمل في خريف العام 1980 في “يونايتد برس” مديراً لمكتبها في بيروت. فحوى الصفقة أنّ مُحتجِزي الدبلوماسيين الأميركيين لن يُطلقوا الرهائن قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. هذا ما حدث بالفعل. كانت النتيجة أن سقط جيمي كارتر ونجح رونالد ريغان.
مع نشوب الحرب العراقيّة – الإيرانيّة في أيلول 1980، اتّبعت إدارة كارتر خطّاً مسايراً لإيران. الشيء نفسه فعلته إدارة ريغان التي لم تخرج عن هذا الخطّ. قبل انكشاف فضيحة “إيران – كونترا” والأسلحة الإسرائيلية إلى إيران وزيارة مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلين مع آخرين لطهران في خريف العام 1986، انسحبت أميركا أمام إيران في لبنان. كان يوم 23 تشرين الأوّل من عام 1983 نقطة التحوّل. فجّر الإيرانيّون عن طريق انتحاريّ مقرّ المارينز قرب مطار بيروت. قُتِل 241 عسكريّاً أميركيّاً، في أكبر خسارة من نوعها للجيش الأميركي منذ انتهاء حرب فيتنام في 30 نيسان 1975. منذ ذلك اليوم، بدأ التغيير يحدث في العمق في لبنان.
في الواقع، ردّت إدارة ريغان على تفجير مقرّ المارينز بالانسحاب من لبنان نهائيّاً. مهّد تفجير مقرّ المارينز لانهيار النظام اللبناني السابق يوم سقطت بيروت في السادس من شباط 1984 في يد ميليشيات “أمل” والحزب التقدّمي الاشتراكيّ. طردت الميليشيات الجيش اللبناني من القسم المسلم من العاصمة.
كان السادس من شباط 1984 النهاية الفعليّة لعهد الرئيس أمين الجميّل، خصوصاً مع عودة خطوط التماس إلى بيروت… وخروج الجيش من القسم الغربيّ منها.
كان اتّفاق الطائف في العام 1989 المحاولة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الصيغة اللبنانية. لم يحُل الطائف، الذي مات مع اغتيال رفيق الحريري قبل 16 عاماً، دون الانهيار الأخير الذي بلغ ذروته بعدما صار “حزب الله”، أي إيران، مَن يقرّر مَن هو رئيس الجمهوريّة في لبنان، كما حدث مع انتخاب ميشال عون في 2016.
لم يعُد لبنان مهمّاً بالنسبة إلى أميركا.
هل كان مهمّاً في يوم من الأيّام لو لم تكن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فيه؟
هذا ما لم يدركه الزعماء المسيحيّون في يوم من الأيّام على الرغم من منتهى الصراحة الأميركيّة في التعاطي معهم. في مذكّراته التي وردت في شكل حديث طويل مع موقع تابع لوزارة الخارجيّة الأميركية، يقول الدبلوماسيّ روبرت أوكلي، الذي كان المستشار السياسي للسفارة الأميركية في بيروت، الكثير عن فترة خدمته في لبنان. من بين ما يقوله إنّه قام في 1974 بزيارات وداعيّة شملت كلّ القيادات المسيحيّة. أكّد لكلّ واحد من الذين التقاهم أنّ عليهم أن يكونوا حذرين وألّا يتوقّعوا أن يهبّ أحدٌ في الغرب لمساعدتهم، أي لمساعدة المسيحيين، في حال دخلوا في صدامات مع طرف مسلم أو مع الفلسطينيّين.
هل تغيّر شيء في لبنان هذه الأيّام؟
في السنة 2021، ليس ما يشير إلى أيّ تغيير، أقلّه من الجانب الأميركي. لا يوجد مَن يريد السماع بلبنان، لا لشيء إلّا لأنّ اللبنانيين لا يريدون مساعدة أنفسهم. إذا كان نظام ما قبل الطائف انتهى في 6 شباط 1984، فإنّ نظام ما بعد الطائف انتهى في 6 شباط 2006 مع توقيع وثيقة مار مخايل بين ميشال عون وحسن نصرالله. يومذاك، وضع المسيحيون أنفسهم في فم “الجمهوريّة الإسلاميّة” و”المرشد”. لم يعُد من المستغرب أن يكون لبنان قد دخل في مرحلة ما بعد الانهيار… مرحلة البحث عن صيغة جديدة في ظلّ عالم منشغل بأمور كثيرة، من بينها كيفيّة اتّقاء شرّ إيران!