إسماعيل محمد علي
جاء رد فعل الشارع السوداني على قرارات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان التي اتخذها الاثنين 25 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بحل مجلسي الوزراء والسيادة وإعلان حالة الطوارئ في البلاد وتجميد عدد من المواد في الوثيقة الدستورية، أكثر صداماً وعنفاً من ناحية التصعيد لمواجهتها، إذ أعلنت مؤسسات واتحادات ونقابات مهنية وعمالية ومدنية عدة في بيانات لها العصيان المدني، لحين التراجع عن هذه القرارات التي اعتبرتها بمثابة الانقلاب العسكري بشكل صريح.
لكن، ما مدى الاستجابة لهذه الدعوات على أرض الواقع؟ وما الوسائل الأخرى التي اتبعها الشارع لمقاومة تلك القرارات؟ وهل سلاح العصيان المدني كافٍ لاسترداد السلطة المدنية؟
جدول تصعيد
يقول عضو نقابة الطيران المدني خيار عبد الله خيار، “في الحقيقة كنا متوقعين هذه الخطوة من قبل المكون العسكري، لذلك تحسّبنا لها باتفاق 15 جسماً نقابياً بإعلان العصيان المدني في حال حدوث أي انقلاب أو إجراء غير دستوري، كوسيلة من وسائل المقاومة من أجل استرداد السلطة المدنية. وبالفعل بدأت هذه الأجسام النقابية تنفيذ هذا العصيان والإضراب العام عن العمل. وميدانياً، وضعنا جدولاً للتصعيد لمدة ثلاثة أشهر، يشتمل على المواكب والتظاهرات والوقفات الاحتجاجية في الشوارع الرئيسة والفرعية داخل الأحياء في كل مدن البلاد، والمواقع الاستراتيجية، وسوف نقيّم كل هذه الوسائل السلمية بشكل مستمر باتجاه التصعيد الجماهيري حتى إعلان التراجع الفوري عن كل القرارات التي اتخذها البرهان”.
وتابع خيار، “الشارع متجاوب تماماً مع عمليات المقاومة، وهو أصلاً كان رافضاً التماهي مع العسكر، والآن أدى إعلان حالة الطوارئ إلى توافق واصطفاف جميع الكيانات المدنية في مكان واحد، وهناك تنسيق تام بين هذه الأجسام عبر اللجان الميدانية التي لها وسائلها وطرقها في تحريك الشارع في الأوقات المحددة والمواقع المتفق عليها. فحالياً كل الطرق مغلقة أمام حركة السيارات، وتواصلت مع عدد من أعضاء لجان المقاومة، وتأكدت أن نسبة الإغلاق للشوارع كبيرة جداً، وأن هناك تفهماً من المواطنين وعدم تذمّر، لأنهم يعرفون أنه لا سبيل لاسترداد ثورة أبنائهم التي مهروها بدمائهم وأرواحهم إلا بالتصعيد السلمي المتواصل”.
سند جماهيري
وعلى الرغم من تفاؤله بأن المؤشرات تؤكد أن البرهان سيتراجع عن هذه الخطوة الانتحارية، من منطلق رفض الكيانات السياسية الجلوس معه وفق ما أعلنه من إجراء لتصحيح مسار الثورة، بحسب قوله، فضلاً عن عدم تأييد أي كيان لهذا الانقلاب، إذ أعلن معظم القوى السياسية والتنظيمات النقابية والمدنية والمهنية رفضه هذا الإجراء غير القانوني، وعدم الاعتراف به، واستنكاره وإدانته لما جرى من تقويض للشراكة، “لكن مع ذلك فإن الجميع على قناعة تامة بأنه مهما أخذ هذا الإجراء من وقت، فلن تيأس الجماهير وتنظيماتها المختلفة من الصمود والمقاومة حتى تحقيق النصر باسترداد الثورة من مختطفيها”.
وأكد عضو نقابة الطيران المدني، أن كل عوامل دحر هذه الخطوة إلى مزبلة التاريخ متوافرة، لأنها لم تجد السند الجماهيري سواء داخل الخدمة المدنية أو خارجها، فقد حاول أصحاب هذا المخطط الانقلابي الضغط على بعض المكونات والقبائل وغيرها من الأجسام من دون تجاوب، لأن الجميع يعرف أن هذا الطريق الذي اختاره البرهان لا يعبّر عن إرادة الشعب، بالتالي لن يؤدي إلى استقرار الحكم في البلاد.
كسر الطوارئ
في السياق، أوضح عضو لجان المقاومة في أم درمان صديق محمد صديق أنه “وفقاً لمجريات الأحداث وبحسب رصدنا لها، فإن ما حدث هو انقلاب حقيقي على شرعية الثورة ومن يمثلها في السلطة المدنية، ورفضنا لهذا الانقلاب ومقاومتنا له سيكونان عبر اعتمادنا على النهج السلمي في كل تحركاتنا، وذلك باتخاذنا العصيان المدني وسيلة رئيسة لمواجهة الخطر الذي يحدق ببلادنا، من خلال إغلاق كل الشوارع الرئيسة والفرعية في المدن، بخاصة العاصمة المثلثة، وذلك في محاولة لتعطيل الحياة العامة ودولاب العمل، وبالفعل جرى كسر حالة الطوارئ المعلنة على الرغم من الأعداد الكبيرة من السيارات العسكرية المنتشرة في الطرقات لمنع أعمال المقاومة باستخدام العنف المفرط ضد الثوار، فضلاً عن إطلاق الرصاص في الهواء لإخراجهم من الشوارع، لكن ظل الشباب من الجنسين صامدين بتسجيل مواقف بطولية فاقت المشهد والتصور، وهو ليس بمستغرب عنهم، فقد كانوا وقود ثورة ديسمبر (كانون الأول) حتى تحقق النصر”.
وزاد، “ظلت لجان وأجسام المقاومة لكها منذ الوهلة الأولى لانتشار التعزيزات العسكرية في الطرقات، مما كان واضحاً للجميع بأنه انقلاب حقيقي على الرغم من التبريرات، في حالة انعقاد تام وتوصلت إلى برنامج مشترك لتصعيد العمل الجماهيري لمواجهة ومقاومة هذا الانقلاب بكل الوسائل السلمية المتاحة والمشروعة، بحيث سيكون الاعتماد على إحداث اختناق داخل الأحياء بمنع الحركة إلا في الحالات الحرجة، وحراسة التروس (الأحجار) التي وضعت في الشوارع طوال اليوم، منعاً من إزالتها من قبل القوات العسكرية، فالحل الوحيد لمقاومة هذا الانقلاب التزام السلمية في كل المسارات”.
حيوية الثورة
وأضاف صديق، “لدينا أمل كبير أن نجد الرجال الشجعان في الجيش السوداني يتخذون موقفاً ينحاز إلى الشارع، ويعيدون للثورة حيويتها وألقها اللذين أبهرت بهما العالم، فنحن لا نريد أن نفقد أرواحاً جديدة من أجل حق مكتسب هدفه النهوض بالبلد الذي كان في حالة عزلة وضياع حقيقي، لكن لدينا الاستعداد للتضحية مرة أخرى إذا وجدنا التعنت بالسير قدماً في هذا الطريق الانقلابي، وذلك باستخدام الوسائل ذاتها التي أجبرت البشير بهيبته وقوته على التنحي، إذ استمرت تلك الثورة خمسة أشهر متواصلة من دون كلل وملل، والآن لن يغلبنا أن نصبر مع البرهان أضعاف هذه المدة وأكثر منها حتى يسقط كما سقط البشير”.
ونوه عضو لجان المقاومة إلى أن ثورة ديسمبر، كان “الدينامو” المحرك لها هو تجمع المهنيين السودانيين، من خلال إعلانه على موقعه في “فيسبوك” موعد المواكب ومساراتها ونقاط التمركز وبداية انطلاقها، لكن الآن الوضع تغيّر مع إغلاق الإنترنت، بحيث تُحرّك المواكب من أرض الواقع عبر لجان الخدمات والتغيير في الأحياء، ويجري التنسيق بينهم والثوار لاتخاذ أي خطوات تصعيدية، مبيّناً أن من أسباب استعجال هذا الانقلاب هو قرب إعلان نتائج ملف فض اعتصام القيادة العامة، الذي اكتمل بنسبة 99 في المئة، لذلك جرى إلغاء المادة 15 من الوثيقة الدستورية وهي تعني تجميد لجنة التحقيق في فض الاعتصام، وهو إجراء يؤكد أن المكون العسكري متورط تماماً في عملية فض الاعتصام، وإلا لماذا جرى استهدافها؟
مواكب ليلية
من جانبها، أشارت الناشطة الحقوقية والسياسية إيمان حسن عبد الرحيم إلى أن “ما حدث هو الرجوع بالثورة إلى الوراء، بل إلى نقطة البداية، وهو أمر لم يكُن متوقعاً حدوثه بهذه الطريقة السافرة. وفي المقابل، توحدت القوة الثورية في الشارع السوداني نحو التمسك بأهداف ثورة ديسمبر الداعية إلى مدنية السلطة، وقد تواصلت كل الأجسام المدنية مع بعضها بعضاً، وخلُصت إلى أدق التفاصيل لوضع النقاط فوق الحروف، بهدف مقاومة هذا الانقلاب بالوسائل والأساليب السلمية المتعارف عليها، لأن لدينا إحساساً بأن الثورة السودانية بيعت وضح النهار بغموض مريب، لكن هيهات هيهات أن يصمت الشارع على هذه المؤامرة، فهناك تدافع وإصرار على استرداد الشارع حقه المشروع بواسطة التظاهر السلمي”.
وأضافت، “الآن، انتظمت المواكب الليلية في الأحياء لتشجيع الشباب من الجنسين على الحماسة، وخلقت هذه المواكب أجواء ثورية وشعوراً بروح الثورة، فأصبحت من البرامج الراتبة والمهمة، كما يجري في الوقت ذاته الإعداد لموكب 30 أكتوبر. وبحسب رؤيتي، سيكون موكباً مذهلاً، ونتوقع أن نتعرض فيه للعنف والضرب، لكن لا خيار لنا غير المضيّ في هذا المسار على الرغم من وعورته، فنيل الحرية يحتاج إلى التضحية، وهذا الشعور يحمله جميع الثوار، ونعتقد أن الجيش فيه شرفاء ربما يكون لهم دور ما، ونحن بدورنا نقوم أيضاً بتوعية الشباب بكيفية التعامل في المواقف الخطيرة عند المواجهة مع القوات الخاصة بالتصدي للتظاهرات، فضلاً عن نوعية المخاطبات التي تلقى على الجمهور في الشارع، وكيفية تأمين أنفسهم”.
أشواك وعراقيل
وواصلت عبد الرحيم، “يأتي حرصنا على التمسك بالمدنية، لأننا تعبنا خلال الأعوام الثلاثين من حكم نظام البشير، فمن حق هؤلاء الشباب أن يعيشوا في ظل وطن يتمتع بالحرية والمدنية، بعيداً من الديكتاتورية، فالجيش يجب أن يتفهم وضعه ومهماته المعروفة في أي بلد كان، وهي حماية وصون تراب البلد، وأن لا يتدخل في السياسة، لكن الواضح أن المشوار سيكون طويلاً. مع ذلك، هناك بصيص نور سنذهب باتجاهه ليوصلنا إلى هدفنا، فالطريق ليس سهلاً، وليس معبّداً، إنما مليء بالأشواك والعراقيل، ومتأكدين أننا سنتعرض للعنف والقهر من قبل القوات والميليشيات الخاصة التي تقوم بهذا الدور، ومع ذلك سنتمسك بالسلمية مهما طال السفر، فلا بد من حماية بلدنا من الردة والظلام، وهذا حق مشروع نمارسه”.
وعن مدى استجابة الشارع لنداءات لجان المقاومة لمواجهة ما سمّته بـ”الانقلاب”، أكدت الناشطة الحقوقية والسياسية أن “التجاوب منقطع النظير، كنت في جولة لاستطلاع الأوضاع ميدانياً، فكلّما تحركت من شارع إلى آخر أجد شباباً يحرسون مواقعهم على الرغم من ارتفاع حرارة الشمس وغير مكترثين لأي مخاطر، بل يطاردون سيارات العساكر التي تأتي لإزالة الأحجار من الشوارع، وتجد في الوقت ذاته عدداً من الفتيات يقمن بخدمتهم بتوفير الأكل والشرب، كما هناك غرفة عمليات تعمل على مدار 24 ساعة في كل حي لمتابعة التطورات في الميدان”، مشددة على أن تأثير رفض الشارع لقرارات البرهان ظهرت خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده أمس الثلاثاء، إذ اتضح التراجع في حدة أسلوبه، وحاول أن يكون هادئاً وأعطى تبريراته لما اتخذه من قرارات، وأكد عدم الحياد عن أهداف الثورة، لكن كل ذلك لن يهدّئ من عزيمة الشارع الذي يريد سوداناً جيداً تتوافر لشعبه كامل حرياته وحقوقه المشروعة.
المصدر: اندبندنت عربيّة