خاص النشرة
منذ حادثة الطيونة، وما أعقبها من توتر سياسي غير مسبوق، ترجم تصعيدًا وشحنًا على خطّ العلاقة بين “حزب الله” بقيادة أمينه العام السيد حسن نصر الله وحزب “القوات اللبنانية” بقيادة رئيسها سمير جعجع، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن “تموضع” بعض الجهات السياسية، وفي مقدّمها كلّ من “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”.
ولعلّ ما يعزّز الاهتمام بموقف هذين الطرفين تحديدًا يتمثّل بما يُحكى في الكواليس السياسيّة عن أنّ الخلفيّة الحقيقيّة للتوتر المستجدّ تتمثّل في قيادة جعجع لـ”مشروع” السعودية في لبنان، القائم على تصعيد المواجهة مع “حزب الله”، بعد “تقاعس” كل من الحريري وجنبلاط، ودخولهما، على النقيض، في “شبه تحالف” مع الحزب.
إلا أنّ ما كان لافتًا تمثّل في لجوء الجانبين إلى “الصمت”، حتى كادا يتجاهلان ما حصل في الطيونة، لولا تصريح “يتيم” لرئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري يوم الحادثة، بقي محصورًا في العموميّات، من نوع رفض العودة إلى الحرب الأهلية، وجولة في السياق نفسه للنائب السابق وليد جنبلاط، ركّز بدوره خلالها على “بديهيّة” رفض الفتنة.
فكيف يُفسَّر هذا الصمت، الذي يرى فيه البعض تبنّيًا لسياسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الشهيرة، أي النأي بالنفس؟ وإذا كانا يعتبران نفسهما غير معنيَّين بما حصل في الطيونة من قريب أو من بعيد، فماذا عن التداعيات على أبواب الانتخابات النيابية المفترضة خلال أشهر؟ أين يتموضع الرجلان عمليًا بين نصر الله وجعجع؟.
يرى البعض أنّ الإجابة “المضمونة” قد تكون أنّ الحريري وجنبلاط، إذا ما خُيّرا بين نصر الله وجعجع، فإنّهما سيختاران بكلّ بساطة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو “الصديق المشترك” لكليهما، وسبق لهما أن أكّدا في أكثر من مناسبة على “ثابتة” العلاقة معه، وهو ما أكّد عليه الحريري قبل وبعد اعتذاره عن مهمّة تشكيل الحكومة التي كان بري “داعمه الأول” فيها، ويؤكد عليه جنبلاط باستمرار، وخلال اللقاءات الدوريّة التي تجمعهما.
لا يعني ذلك، وفق ما يؤكد المحسوبون على الحريري وجنبلاط، “الاصطفاف” إلى جانب حليف بري، حزب الله، في المواجهة الدائرة بينه وبين “القوات اللبنانية”، حيث يلفتون إلى أنّ بري كان “أكثر مرونة” من الحزب في التعاطي مع حادثة الطيونة، علمًا أنّ الاتهام المباشر الذي وجّهه إلى “القوات” بالوقوف خلفها كان محصورًا بالبيان المشترك الذي صدر عنه وعن “حزب الله” في يوم الحادثة، قبل أن يتراجع خطوة إلى الخلف بعد ذلك.
أكثر من ذلك، ثمّة من يستند إلى جلسة مجلس النواب الأخيرة ليثبّت “الفصل” بين كلّ من “حزب الله” و”حركة أمل” في العلاقة مع “القوات”، ففيما أصرّ نواب الأول على “القطيعة التامة” مع نواب “القوات” بلا سلام ولا كلام، كانت الأجواء “الودية” تظهر على ضفة “أمل-القوات”، حتى إنّ هناك من تحدّث عن “تنسيق” حصل بين نواب الطرفين، في مواجهة “الخصم المشترك”، رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل.
من هنا، يقول البعض إنّ الحريري وجنبلاط أقرب إلى برّي من أيّ طرف آخر، في هذه الحادثة وغيرها، وهو ما حرص “البيك” أصلاً على تأكيده خلال الجولة التي قام بها الأسبوع الماضية، والتي شملت “الأستاذ”، حيث كان تأكيد على رفض “جريمة الطيونة”، كما وصفها، وبالتالي على وجوب التصدّي لكل موجات “الاقتتال الداخلي”، ومحاولات جرّ البلاد إلى “سيناريو” الفتنة، الذي جُرّب بما يكفي في الماضي، حتى لا يُعاد مستقبلاً.
لكن، هل يكفي مثل هذا الموقف، “الغارق حتى النخاع”، في العموميّات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، على أبواب انتخابات نيابية قد لا تكون “الرمادية” وصفة مناسبة على الإطلاق، في ظلّ المنافسة المتوقّعة، خصوصًا للحريري وفي شارعه؟ وهل بهذه الطريقة، يسترجع الحريري ما فقده إقليميًا، خصوصًا بعدما بات واضحًا أنّ السعودية صرفت النظر عنه، وهناك من يقول إنّها “استبدلته” برئيس حزب “القوات اللبنانية”؟.
قد تكون الإجابة الطبيعية هي أنّ مثل هذا الموقف لا يكفي، ولعلّه السبب الذي دفع كلاً من الحريري وجنبلاط إلى التزام “الصمت”، وعدم التعبير عنه صراحةً، خشية أن يؤوَّل في غي موضعه، فهما وإن كانا لا يجدان نفسه في “الخندق” نفسه مع جعجع، وقد “تفرّقا” عنه خلال السنوات الماضية، بعد “التحالف” السابق في إطار قوى الرابع عشر من آذار، يدركان أنّ الوقوف في وجهه قد تكون من “المحاذير الكبرى” سعوديًا.
وفي هذا السياق، قد يكون موقف رئيس تيار “المستقبل” أكثر “حساسيّة” من ذلك الذي يجد نفسه جنبلاط فيه، وربما لهذا السبب، شعر الأخير بـ”حرية حركة” أكبر، فالحريري على “خصومة شخصية”، إن جاز التعبير، مع جعجع، وذلك منذ استقالته المريبة الشهيرة من الرياض، والتي سارع “الحكيم” إلى الترحيب بها، بمُعزَلٍ عن كلّ شيء، وهو ما جرّ سلسلة من المواقف التي تفرّق فيها “الحليفان السابقان” بعد ذلك.
من هذه المواقف على سبيل المثال لا الحصر، ما يعتبرها الحريري “شعبوية” حاول جعجع أن يحصّلها على حسابه، في ظلّ حكومة “ما قبل الثورة”، يوم اختار أن “يخلع لباس السلطة” بمجرّد انطلاق الاحتجاجات، من أجل “ركوب الموجة”، وذلك من دون أيّ اكتراث بالنتائج، علمًا أنّ “الشيخ سعد” يحمّل جعجع شخصيًا مسؤولية وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، يوم دعم ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة، ردًا على تبنّي الحريري ترشيح سليمان فرنجية.
لكنّ الحريري غير القادر على “فتح صفحة جديدة” مع جعجع، بعد كلّ ما اعترته العلاقة من “حساسيّات”، غير قادر أيضًا على “تجاهله”، إذا ما صحّت الفرضية القائلة بأنّ رئيس حزب “القوات” بات “رجل السعودية في لبنان”، خصوصًا أنّه بات يواجه منافسة “أهلية بمحلية” داخل بيته، من جانب شقيقه بهاء الحريري، “الطامح” لبناء “زعامة” على الأطلال، ما يوحي بأنّ “البديل السنّي” متوافر للسعودية، إذا بقي على “تمرّده”.
لن يدوم “النأي بالنفس” طويلاً، طالما أنّ الانتخابات على الأبواب. رغم ذلك، يرجّح البعض “سيناريو الواقع”: لا تحالف بين الحريري و”حزب الله” بطبيعة الحال، لكن لا تحالف بين الحريري وجعجع أيضًا. إلا أنّ “الإشكاليّة الكبرى” تبقى أنّ مثل هذه “المنطقة الوسط” قد لا تعود من الخيارات في الأشهر القليلة المقبلة، أشهر فاصلة عن الانتخابات، سيكون الأطراف مُطالَبين بحسم موقفهم، “إما أبيض أو أسود”!.