ناصر قنديل-البناء
– لا نعلم بعد مضمون الاعترافات التي أدلى بها الموقوفون الذين تسببت إفاداتهم بتسطير مذكرة الاستماع لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ليقين بأن هذا الاستدعاء لم يكن متوقعاً صدوره بالسرعة والتشدد اللذين شهدناهما، بصورة معاكسة لتدخلات مرجعيات لها تاثيرها على القضاء وقيادة الجيش، وإحراجها لهما، كحال بكركي والمداخلات الأميركية، وما كان هذا الاستدعاء ليحدث ويتم الإصرار عليه لولا وجود وقائع لا يمكن تجاهلها بالنسبة للجهتين المعنيتين، وهما القضاء بشخص مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، الذي لم يكن يوماً مفوضاً لحزب الله كما قال جعجع، وتاريخ النزاعات حول الملفات بين حزب الله مليء بالوقائع، ولا يمكن لأحد التشكيك بأن قيادة الجيش ومديرية المخابرات قد يمثلان مجرد صدى لطلبات حركة أمل وحزب الله، وفي الحادثة نفسها كان واضحاً من توضيح قيادة الجيش لتفاوت مضمون بياناتها في اليوم الأول، أنها تسير بموقفها تبعاً لما تتوصل إليه من وقائع، ولا تزال قضايا الخلاف في مقاربة أمل وحزب الله لملفات كملف العميل عامر الفاخوري في الذاكرة القريبة، وقيادة الجيش كما المحكمة العسكرية فعلتا ما تعتقدانه تعبيراً عن مسؤولياتهما بمعزل عن كيف سيقيم أداءهما كل من حزب الله وحركة أمل، وغداً قد تزداد الضغوط الداخلية والخارجية عليهما، ويحدث ما يفتح الباب لخلاف جديد بينهما وبين حزب الله وأمل.
– واقعياً نحن أمام معادلة تقول إن الاستدعاء مبني على شكوك جدية بدور لعبه جعجع في ترتيب مسرح مجزرة الطيونة، عبر معاونين مقربين منه، يملك التحقيق تفاصيل كافية لسؤال جعجع عنها، ومواجهته بها عندما يمثل للاستماع إليه، ولن يكون مفيداً لجعجع الإنكار لأنه سيضيق عليه دائرة الضغط ويزيدها إحكاماً، بقوة تدفق المعلومات التي ستوضع في مواجهته، وقد وفرتها فيديوهات وإفادات واعترافات وداتا اتصالات، ولن يفيد التهرب من المثول لأنه سيخلق ضغوطاً عامة في البلد لفرض المثول عليه، وسيفرض ضغوطاً وإحراجات قانونية له وعليه وعلى الجهات المعنية بمواصلة التحقيق، والأمر مختلف جذرياً عن قضية ملاحقين من قبل المحقق العدلي يطالبون وفقاً لنص دستوري بنقل ملفهم أمام جهة قضائية أخرى نص عليها الدستور، بعدما مثلوا وأدلوا بإفاداتهم أمام المحقق العدلي الأول عندما طلب الاستماع إليهم من دون إطلاق الملاحقة القضائية الاتهامية بحقهم، وصفات هؤلاء مذكورة في نص الدستور كرؤساء ووزراء، ولو كانت هناك محكمة أخرى ذات صلاحية لملاحقة رؤساء الأحزاب سيكون على جعجع المثول أولاً للإدلاء بإفادته الأربعاء، ثم في حال إطلاق ملاحقة اتهامية بحقه أن يطلب نقل ملفه إلى محكمة لرؤساء الأحزاب ليست موجودة.
– إذا صحت الفرضيات بأن جعجع دبر ورتب مجزرة الطيونة، عبر زرع مجموعات استفزاز للمتظاهرين لاستدراجهم بحال فوران إلى الشارع الفرعي وهم يقومون بالتكسير والهتاف، ما يمنح الذريعة لتدخل سلاح جعجع المنظم لفتح النار بداعي حماية الأهالي، أملاً بإطلاق تفجير يستدرج بالدم تورطاً مقابلاً، تضيع فيه نقطة البداية، عندما تغرق المنطقتان المتقابلتان بدماء أبنائهما وبناتهما، وهنا سيكون جعجع قد ارتكب الخطأ القاتل، لأنه على الرغم من النجاح النسبي، سواء باستدراج جزء من التظاهرة عبر الاستفزاز للخروج عن السياق المرسوم لها، سواء في مسارها أو في سلوكها، أو في استدراج إطلاق النار بعد سقوط أول دفعة من الشهداء والجرحى، إلا أن لا هذه ولا تلك شكلتا النجاح الذي يحجب حقيقة المجزرة، لأن الحكمة التي رافقت إدارة ما بعد المجزرة نجحت نجاحاً كلياً في إبقاء الأمور تحت السيطرة، فمنعت توازن الدماء الذي يخفي المجزرة، ومنعت التشكيك بالقضاء ومنحته كل الثقة حتى باعتقالات طالبت بعضاً من مناصريها، ومنعت الطعن بصدقية الجيش التي جرت محاولات لتفخيخها بنشر فيديوهات تظهره مصدراً لإطلاق النار يجب أن نعرف من كان وراء نشرها الآن.
– فشل جعجع سيكون هو السبب في تحول فعلته إلى الخطأ القاتل، وهذا الفشل لم يحدث صدفة، بل لأن التفوق الأخلاقي والوطني الذي جوبهت به المجزرة هو الذي أجهض التتمة المطلوبة لتتحق الأهداف المرجوة منها، لكن يبقى السؤال، لماذا يقدم جعجع على هذه المغامرة التي قد يكون بدأ يلمس أنه سيواجه نتائجها وحيداً، هل أن التعطش للمال أعمى بصيرته في ظل توهم حجم العائد المترتب على الظهور كقوة مستعدة للعبة الدم مع حزب الله، أم أن ثمة من نصحه بتصعيد المناخ الطائفي إلى اقصى الدرجات لتحسين نتائج استطلاعات الرأي الانتخابية حتى لو أدى ذلك لسقوط الدماء، أم لأن ما لدى جعجع من معطيات، أسوة بما لدى كل الذين وضعوا بيضهم في السلة الأميركية، أثار ذعره من الآتي، بعدما رأى مشهد أفغانستان، ووصلته المعلومات عن الانسحاب المقبل من العراق وسورية والعودة للتفاهم النووي مع إيران، وحجم الموقع المتنامي لحزب الله في المعادلة الإقليمية وصولاً لتكريسه شريكاً بنصف القرار الذي يصنع الاستحقاق الرئاسي المقبل، ليتقاسم الآخرون النصف الثاني بقيادة واشنطن، فراهن على إنتاج معادلة تتيح له التحول إلى الرقم الصعب الموازي؟