الأخبار- علي مراد
في العدد الثالث من المشروع البحثي «تفكيك المزاعم الأميركية حول دور حزب الله في أميركا اللاتينية»، الذي ينشره المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عرض للجذور الإسرائيلية لاتهام حزب الله بتجارة المخدرات وتصوير التهمة كـ«حقيقة» لا تقبل النقاش، قبل أن تتحوّل لاحقًا مصدرًا للاتهامات الأميركية لتبرير إصدار قوانين عقوبات مباشرة عليه.
لعل أوضح الأدلة على المحاولات الإسرائيلية المبكّرة للتأثير في القوى الغربية لتبنّي وصم حزب الله بالاتجار بالمخدرات ظهرت في تسعينيات القرن الماضي. ففي اجتماع للجنة «الحرب على المخدرات» في الكنيست الإسرائيلي، في 16 حزيران 1997، قال نائب قائد العمليات الخاصة في وزارة الأمن الداخلي شموئيل نركيس: «يمكنكم تتبّع المخدّرات التي تتدفّق إلى أميركا من حزب الله ولبنان وسوريا. حزب الله متورّط بإنتاج المخدرات، وكل من هو على اطلاع على ما يحصل في لبنان يعرف ذلك». وفي الجلسة نفسها، قال نائب منسق الحكومة الإسرائيلية في لبنان العقيد رؤوفين إرليخ: «لدى حزب الله ما يكفي من المال جرّاء إنتاج (المخدرات) لتغذية تنظيمه. يبدو أن هناك صلة بين المخدرات والإرهاب. يجب اختبار هذا الافتراض بطريقة دقيقة». وأضاف: «من المهم تجنيد الغرب والولايات المتحدة في هذه الحرب».
أما أقدم ما نُشِر أميركياً عن اتهام حزب الله بالتورّط في تجارة المخدرات فوردَ في تقرير لصحيفة «كريستيان ساينس مونيتور»، في 9 آذار 1988، ادعى نقلًا عن مصادر استخبارية غربية بأنّ «سلطة دينية شيعية أصدرت فتوى لحزب الله تشرّع له إنتاج الأفيون والهيرويين طالما أنها تُباع للكفّار». بعده بأيام (24 آذار 1988)، نشرت «وول ستريت جورنال» تقريرًا نقل كاتباه عن مسؤول «رفيع» في وزارة العدل الأميركية أنّ «من الواضح أنّ أعضاء حزب الله يتورّطون في تهريب المخدرات لدعم عناصر مختلفة من تنظيمهم»، لكن المسؤول أضاف إنّ حكومته «لا تعرف ما إذا كانت الأموال تذهب مباشرة لدعم الأنشطة الإرهابية». وأضاف التقرير نفسه إنّ وكالة المخابرات المركزية الأميركية خَلُصَت إلى أنّ الإيرانيين «علّموا حلفاءهم اللبنانيين كيف يزرعون خشخاش الأفيون»، وادعى أنّ «أوساطًا استخبارية أميركية توصّلت إلى أدلّة على علاقة حزب الله بالمخدرات، بما في ذلك فتوى دينية من رجل الدين صبحي الطفيلي لأتباعه حذّرهم فيها من تعاطي المخدرات، لكنه أوصاهم ببيعها للكفّار»، وهي كذبة تدحضها حقيقة أن الطفيلي لم يكن آنذاك، أو في أي يوم من الأيام، مرجعاً دينياً يجوز له إصدار الفتاوى.
بعد 4 سنوات، تسلّل الاتهام الأميركي إلى إحدى لجان مجلس النواب في الكونغرس. ففي 23 تشرين الثاني 1992 أصدر طاقم موظفي «اللجنة الفرعية حول الجريمة والعدالة الجنائية» في مجلس النواب الأميركي (برئاسة النائب الديموقراطي عن ولاية نيويورك الصهيوني تشاك شومر) تقريرًا بعنوان «سوريا، الرئيس بوش، والمخدرات ــــ فضيحة الإدارة القادمة (العراق غيت)». التقرير المؤلَّف من 36 صفحة تضمّن اتهامات لم توثَّق بأدلّة، ونُسبت إلى مصادر استخبارية أميركية لم يسمّها، واستوحى ادعاءاته من تقرير سابق صادر ــــ بالإنكليزية حصرًا ــــ عن استخبارات الشرطة الإسرائيلية، ورد فيه اتهام لحزب الله بالاتجار بالمخدرات، وذُكِر فيه مبلغ 100 مليون دولار كعائدات لهذه التجارة. وعلى امتداد السنوات اللاحقة، استعمل الأميركيون الصهاينة والصهاينة أنفسهم «تقرير شومر» في كتبهم وكتاباتهم (كالصهيوني الأميركي دانيال بايبس والرئيس الأسبق لجهاز «شين بيت» الجنرال الإسرائيلي آمي أيالون).
الفتوى المزعومة
بما أنّ حزب الله يتبنّى العقيدة الإسلامية التي تحرّم تعاطي المخدرات والاتجار بها، كان لا بد من تأسيس سردية تتجاوز هذا التحريم لتسهيل ترويج التهمة. لذلك، استغل الاحتلال الإسرائيلي اتجار بعض العائلات والأفراد في مناطق البيئة التي انبثق منها الحزب في لبنان بالمخدّرات (البقاع تحديدًا) لترويج اتهامه برعاية زراعة الأفيون والحشيش وإنتاج مخدرات صناعية، علماً بأنّ هذه الزراعة في مناطق الأطراف سابقة لوجود الحزب وعابرة للطوائف ومرتبطة بضعف وجود الدولة الأمني والاقتصادي في تلك المناطق.
صدرت كتب وأبحاث ونُشرَت مئات المقالات في العقدَين الأخيرين ادّعت وجود فتوى تجيز لعناصر حزب الله الاتجار بالمخدرات واستعمالها كسلاح لاستهداف أعدائه، وقد وردت الفتوى المزعومة وفق النص الآتي: «نحن نصنع هذه المخدرات للشيطان أميركا واليهود. إذا كنّا غير قادرين على قتلهم بالسلاح، فسنقتلهم بالمخدرات». إلا أن أيًّا من الكتب والأبحاث والمقالات التي أوردت هذه الفتوى لم تذكر اسم المرجع الديني الذي أصدرها. أضف إلى ذلك إن المصدر الأساس الذي يُستَشهَد به كدليل على وجود الفتوى في كل المنشورات هو يوسف بودانسكي، الإسرائيلي الذي حصل على الجنسية الأميركية في بداية الثمانينيات، وعمل في مؤسسات ودوائر أميركية رسمية.
المؤسّسون للتهمة
كان بودانسكي محرّراً في المجلة الرسمية لسلاح الجو الإسرائيلي، وهاجر إلى الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات للعمل في جامعة جونز هوبكنز. بالتوازي مع عمله الأكاديمي، تولى وظيفة «المحرر الفني» لمجلّة تصدر عن «المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي – JINSA». وفي السنوات الأولى من حكم إدارة ريغان، وظّفه ريتشارد بيرل وستيفن برايان مستشاراً في وزارة الدفاع، وكان ذلك غير مألوف في المؤسسات الرسمية الأميركية كونه كان لا يزال «مواطنًا إسرائيليًا». قدّم بودانسكي خدماته الاستشارية في البنتاغون في «قسم نقل التكنولوجيا». بعد وقت قصير من اعتقال الموظف في المخابرات البحرية جوناثان بولارد بتهمة التجسس لمصلحة «إسرائيل» عام 1985، توارى الرجل عن الأنظار. إذ كان، وفقًا لمصادر أميركية، أحد مشغّلي بولارد، كوكيل لجهاز «ليكيم – LEKEM» الإسرائيلي، فرع التجسّس التكنولوجي في وزارة الحرب الإسرائيلية. وبحسب ما نشرت دوريةExecutive Intelligence Review الأميركية، أُرسِل بودانسكي في الأصل إلى الولايات المتحدة كجزء من خطط إسرائيلية للحصول على التكنولوجيا اللازمة لبناء طائرة «لافي – LAVI»، وهي نسخة معدَّلة من طائرة F-16 الأميركية. وبعد انكشاف بولارد، نشرت صحيفة حزب العمل الإسرائيلي «دافار»، في أحد أعدادها، أنّ بودانسكي كان مرتبطًا به.
كتب بودانسكي مقالات حول الأمن القومي في «واشنطن تايمز»، وعمل مراسلًا لصحيفة «جاين للدفاع» البريطانية. وبحلول عام 1989 أصبح مديرًا لـ«فريق العمل حول الإرهاب والحروب غير التقليدية» في مجلس النواب الأميركي حتى عام 2004، وأعدّ تقارير عن «التهديد الإسلامي» لأميركا. عام 1993، بعد أشهر من تفجير مركز التجارة العالمي، أصدر كتابًا عنوانه «الهدف هو أميركا والغرب… الإرهاب اليوم».
حاول بودانسكي في كتابه إدراج حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية في خانة التنظيمات السلفية الجهادية، وادّعى وجود نشاط إجرامي لحركات المقاومة بغرض استهداف الغرب عبر نشر المخدرات في مجتمعاته. ونسب الفتوى التي تربط حزب الله بالمخدرات إلى «وكالة أنباء الجماهيرية الليبية» في نشراتها الصادرة بتواريخ 19 و20 و21 آذار 1990، وبالتقصّي عن صحة ورود الفتوى في نشرات وكالة الأنباء الليبية لم يتمّ العثور على شيء. وكان الباحث الأميركي جوناثان مارشال قد أشار في كتابه «السكّة اللبنانية» حول تاريخ تجارة المخدرات في لبنان (2012) إلى أنّ اقتباس بودانسكي في كتابه عن الفتوى مشكوك بصحته.
كان كتاب بودانسكي أول مصدر ذُكرت فيه «الفتوى»، قبل أن يتناقلها لاحقًا عدد كبير من الكتّاب والباحثين (أغلبهم من تيّار اليمين الصهيوني الأميركي) في كتبهم ومؤلّفاتهم إما بشكل مباشر أو عبر ناقل أساسي عنه. لكن أغلب الكتب والإصدارات اللاحقة نادرًا ما نسبت الفتوى إلى بودانسكي، وإنما إلى بحث «قسم البحوث الفيدرالية في مكتبة الكونغرس» بالشراكة مع وزارة الدفاع الأميركية الذي أصدره ريكس هادسون في أيار 2002. في الصفحة العاشرة من بحث هادسون، يورد «الفتوى» مستشهدًا بكتاب آخر لبودانسكي هو «بن لادن: الرجل الذي أعلن الحرب على أميركا». واللافت أن الطبعة الأولى من الكتاب التي صدرت عام 1999 لم ترد فيها هذه «الفتوى»، بل أُضيفت الى الطبعة الثانية التي صدرت بعد أحداث 11 أيلول 2001، في الصفحة 322، في سياق زعمه بأنّ التنظيمات الإسلامية السنّية والشيعية اختلفت في الأيديولوجيا، لكنها تعاونت في الجريمة المنظّمة بناءً على تحالف سرّي مزعوم بين تنظيم القاعدة وإيران.
الكاتبة الإسرائيلية الأميركية راشيل إيرنفيلد أشارت الى «فتوى بودانسكي» في كتابها «تمويل الشر: كيف يتم تمويل الإرهاب وكيفية إيقافه» (2003). لكن الباحثين والمؤلّفين الذين ألّفوا كتبهم لاحقًا تغافلوا (جهلًا أو عمدًا) عن ذكر كتاب بودانسكي كمصدر أساسي للفتوى المزعومة.
مع مرور الوقت، تسلّلت «الفتوى» إلى المؤسسات الرسمية الأميركية، بالتزامن مع التطورات السياسية والميدانية في مواجهة حزب الله للاحتلال الإسرائيلي، فطُرحت كـ«حقيقة» داخل أروقة الكونغرس الأميركي، وتعمّد بعض النواب الأميركيين الاستشهاد بها في جلسات استماع كانت موضوعاتها إما عن حزب الله بشكل مباشر أو عن كارتيلات المخدرات وعصابات الجريمة المنظّمة في أميركا اللاتينية. وجيء على ذكرها في ثلاث جلسات لمجلس النواب أواخر عام 2011 على لسان نائبَين جمهوريَّين، «صودف» أنّ أحدهما هو مايكل ماكول الذي كتب مقدمة كتاب «الهدف هو أميركا والغرب.. الإرهاب اليوم»، أول كتاب ورد فيه ذكر «الفتوى»، لكاتبه يوسف بودانسكي نفسه!
في المحصّلة، تبرز شراكة إسرائيلية ــــ أميركية واضحة في تلفيق تهمة الاتجار بالمخدرات لحزب الله وتكبيرها حين تكون الظروف السياسية مناسبة. أولًا لأن هذه التهمة تهدف الى ضرب صورته كمقاومة وتظهيره منظمة إجرامية، إضافة ألى كونها إرهابية. وثانيًا، أوجدت التهمة مسارًا إضافيًا لجذب الجهود الدولية لمواجهة الحزب ربطًا بأعماله الإجرامية المزعومة. وثالثًا، يمكن تحت هذه الذريعة إثارة الشكوك حول رجال الأعمال الشيعة وفرض ضغوط على التحويلات المالية للمغتربين إلى لبنان والبيئة الشيعية. ورابعًا، تتيح هذه التهمة تحويل حزب الله إلى تهديد للأمن القومي الأميركي ما يسهم في تعبئة الجمهور الأميركي وتشريع فرز موارد متزايدة لمواجهته.