الأخبار
وبالفعل، وتحت هذه اللافتة، بدأت منتصف الشهر الحالي فعاليات اعتصام مفتوح قبالة القصر الرئاسي وسط الخرطوم، للمطالبة بتسلّم الجيش السلطة كاملة، في استنساخ للإرهاصات التي سبقت تولّي عبد الفتاح السيسي الحُكم في مصر. وعلى رغم إطلاق القوى المدنية، بعد أيام من انطلاق الاعتصام، تحرّكاً مضادّاً للدعوة إلى فضّ الشراكة مع المكوّن العسكري، إلّا أن ذلك لم يمنع العسكر ومؤيّديه من رفع وتيرة التصعيد، عبر محاولة اقتحام مبنى مجلس الوزراء أوّلاً، ومن ثمّ إغلاق الجسور والشوارع الرئيسة فجر الأحد، في ما بدا تمهيداً للخطوة الأخيرة على طريق الانقلاب، شأنه شأن تعمّد إغلاق ميناء بورتسودان (شرقاً) لمدّة أكثر من شهر من قِبَل قبيلة البجا، المعروفة ارتباطات زعيمها، محمد الأمين ترك، بـ«حزب المؤتمر الوطني» المحلول وبالمكوّن العسكري. وقبيل ساعات من بدء العملية الانقلابية، سُجّل دخول أرتال من سيّارات الدفع الرباعي التابعة لـ«الدعم السريع» إلى الخرطوم، توازياً مع رواج أنباء مكثّفة على مواقع التواصل الاجتماعي عن قُرب إذاعة بيان الانقلاب.
بدت القوى المدنية كمَن أُسقط في يدها، على رغم أن ما حدث لم يكن مفاجئاً البتّة
ومع أولى ساعات صباح الاثنين، كان حمدوك ووزراؤه وعدد كبير من قادة الأحزاب التي تمثّل الحاضنة السياسية للحكومة، قد اعتُقلوا واقتيدوا إلى أماكن مجهولة، قبل أن تقتحم قوات عسكرية مشتركة مقرّ الإذاعة والتلفزيون في مدينة أمّ درمان، وتحتجز العاملين فيه. وبعد وقت قصير من ذلك، خرج البرهان ببيان الانقلاب ليعلن «حالة الطوارئ العامة في كلّ البلاد، وحلّ مجلس السيادة، وحلّ مجلس الوزراء»، تحت شعار «حفظ أهداف ثورة ديسمبر 2018 وتصحيح مسارها». كما أعلن البرهان تعليق العمل بمواد عدّة من «الوثيقة الدستورية»، متعهّداً بـ«تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلّة» تدير شؤون البلاد حتى قيام «حكومة منتخَبة»، وبـ«إكمال التحوّل الديمقراطي إلى حين تسليم قيادة الدولة إلى حكومة مدنية».
في المقابل، بدت القوى المدنية كمَن أُسقط في يدها، على رغم أن ما حدث لم يكن مفاجئاً البتّة، بل بدا متوقّعاً في أيّ لحظة. ووصف مكتب حمدوك الانقلاب بأنه «تمزيق للوثيقة الدستورية»، داعياً «الشعب السوداني إلى الخروج والتظاهر واستخدام كلّ الوسائل السلمية (…) لاستعادة ثورته»، فيما حضّ «تجمّع المهنيين السودانيين»، أحد المحرّكين الأساسيين لانتفاضة 2018، على «المقاومة الشرسة للانقلاب العسكري الغاشم»، مشدّداً على أنه «لن يحكمنا العسكر والميليشيات. الثورة ثورة شعب. السلطة والثروة كلّها للشعب». وأعلنت «قوى الحرية والتغيير»، من جهتها، العصيان المدني الشامل في كلّ مرافق الدولة. وبينما سُجّلت تحرّكات محدودة في عدد من شوارع الخرطوم سرعان ما قُمعت بالرصاص الحيّ الذي أوقع إصابات في صفوف المندّدين بـ«انقلاب البرهان»، ظهر واضحاً أن معارِضي العسكر لم يعدّوا أيّ خطّة لمواجهة الأخير الذي كان قد جاهر بنواياه مبكراً، بل «ناموا في العسل»، مراهنين على أن «المجتمع الدولي» لن يتخلّى عن الحكومة الانتقالية قبل «قيام انتخابات وإرساء التحوّل الديمقراطي».
ولعلّ ما نُقل، قبل ساعات من الانقلاب، عن «قوى الحرية والتغيير»، يجلّي انفصام الأخيرة عن الواقع، وتعليقها آمالاً عريضة على المسيرات التي تمكّنت من إخراجها في الـ21 من تشرين الأوّل الحالي، بمناسبة ذكرى «ثورة أكتوبر»، متجاهلةً ميزان القوى الذي اختلّ تماماً لغير صالحها على مدى أشهر من الانتقال الفاشل. إذ نقلت مصادر مطّلعة عن تلك القوى أنها أعلت سقف مطالبها التفاوضية إلى درجة إبعاد البرهان وحميدتي من المشهد السياسي، والدفع بغيرهما من قِبَل المؤسسة العسكرية لاستكمال تنفيذ «الوثيقة الدستورية»، على اعتبار أن الأخيرة «وُقّعت مع الجيش كمؤسسة وليس مع أشخاص». وعلى خطّ موازٍ، كان وفد وزاري مفوّض من حمدوك يعتزم التوجّه إلى مدينة بورتسودان، حاضرة ولاية البحر الأحمر، في محاولة لحلّ أزمة الميناء التي استخدمها العسكر كورقة ضغط على الحكومة، بالاستثمار في المظالم المزمنة لأهالي شرق السودان.